في أحدث المواجهات التي خاضها الرئيس دونالد ترامب مع المؤسسات الفيدرالية في العاصمة واشنطن، برزت المواجهة المفتوحة مع رئيس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، الذي رفض الامتثال لطلب ترامب بخفض معدلات الفائدة، وهو إجراء يراه ترامب ضروريا لدعم الاقتصاد الأمريكي في ظل الأزمة الراهنة الناجمة عن الرسوم الجمركية المفروضة على الشركاء والخصوم في مختلف أنحاء العالم.
وعلى النقيض تمامًا من رغبة ترامب وخططه في الترويج للأزمة الحالية، صرّح جيروم باول – ولأول مرة بشكل علني – بأن أزمة الرسوم الجمركية ستنعكس سلبًا على أداء الاقتصاد، إذ ستؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي.
والأهم من ذلك، أشار باول إلى أن تداعيات هذه الأزمة لن تقتصر على النمو فحسب، بل ستمتد لاحقًا لتؤثر سلبًا على معدلات التوظيف، مما قد يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة بين الأمريكيين.
بل وأكثر من ذلك، يؤكد باول أن التغيرات الناجمة عن هذه الأزمة ستدفع ثمنها الشرائح الواسعة من الجمهور الأمريكي، إذ يُتوقع أن يتحمل المواطنون العاديون الكلفة الأكبر عندما تبلغ أزمة الرسوم الجمركية ذروتها.
تصريحات رئيس المؤسسة المالية الأولى في الولايات المتحدة، لم تلقَ ترحيبًا من الرئيس ترامب ولا من فريقه الاقتصادي والمفاوض في أزمة الرسوم، ولا حتى من فريقه السياسي.
ويعود ذلك إلى حرص جميع هؤلاء المسؤولين على الترويج لفكرة أن الآلام الناتجة عن أزمة الرسوم في حياة الأمريكيين هي آلام مؤقتة، وأن المرحلة المقبلة ستكون، كما يصفها ترامب، مرحلة جني الفوائد، إذ تؤكد روايته أن الولايات المتحدة ستجني من هذه السياسات تريليونات الدولارات.
وهذا من شأنه أن يتيح للأمريكيين المزيد من فرص الرجاء والعودة إلى أنماط الاستهلاك المعتادة، التي غيّرتها بشكل شبه كامل حالة التضخم غير المسبوقة التي تمر بها البلاد، والتي تُوصف بأنها الأسوأ خلال العقود الأربعة الماضية.
لم يكن ترامب سعيدًا بسماع تصريحات باول، ولم يكتفِ بالرد عليها بشكل مباشر، بل ألمح أيضًا إلى أنه يفكر جديًا في إقالة باول، مشيرًا إلى أن هذا الأمر، إن حدث، فسيتم بطريقة أسرع مما يتوقعه باول نفسه، بل وأسرع مما يتوقعه كثيرون في العاصمة واشنطن.
هذا الصدام بين البيت الأبيض والاحتياطي الفيدرالي، وإن كان متوقعًا قبل حدوثه نظرًا لنظرة ترامب لرئيس الاحتياطي، الذي يصفه دومًا بالبطيء والمتأخر في قراراته، إلا أن الإعلان عن الأمر من خلال تصريحات علنية أثار مخاوف واسعة من أن ذلك قد يُشكّل سابقة في التاريخ الأمريكي، تُهدد استقلالية واحدة من أهم المؤسسات الاقتصادية في البلاد.
قبل 100 عام، صدر قرار تأسيس المؤسسة النقدية الأولى في الولايات المتحدة، والتي مُنحت آنذاك استقلالية كاملة في اتخاذ قراراتها.
فقد شُيّدت لتكون هيئة سيادية تُشرف على قطاع المال والأعمال والمصارف في البلاد، دون أن ترتبط بأي توجّه سياسي في البيت الأبيض أو بأي حزب يملك الأغلبية في مبنى الكونغرس.
ويضم مجلس إدارة البنك 19 عضوًا يتمتعون باستقلالية تامة في تقييم أداء الاقتصاد استنادًا إلى الأرقام والمعطيات المتوفرة لديهم، واتخاذ القرارات التي يرونها الأنسب، سواء لحماية الأمريكيين من تقلبات المؤسسات المالية، أو لضمان استمرار قدرة الاقتصاد على النمو المستدام.
منذ ذلك الحين، اضطلع الاحتياطي الفيدرالي بمهمتين رئيسيتين: الأولى هي التعامل مع معدلات التضخم وتقلباته في البلاد، والثانية هي الحفاظ على استقرار سوق العمل. وكان على المؤسسة النقدية أن توازن دائمًا بين هذين الهدفين، وأن ترجّح أيهما ينبغي أن يحظى بالأولوية في قراراتها.
غير أن هذا الحق في تحديد الأولويات لم يكن مطلقًا، بل ظل خاضعًا لظروف السوق، ولمدى إلحاح كل من القضيتين وأسبقيتها في المعالجة.
طوال القرن الماضي، تمتع الاحتياطي الفيدرالي باستقلالية كاملة في اتخاذ قراراته المالية والنقدية، ولم تسجل أي حالة تدخل من قبل الإدارات المتعاقبة في توجهاته وقراراته، بغض النظر عن الانتماء السياسي للرؤساء الأمريكيين.
على الرغم من عديد الحالات التي كانت فيها قرارات الاحتياطي لا تتماشى مع الخطاب السياسي أو الحسابات الانتخابية للرئيس في البيت الأبيض، إلا أن المؤسسة حافظت على استقلالها في تحديد سياساتها وفقًا للأوضاع الاقتصادية التي كانت تواجهها البلاد.
للمفارقة، فإن جيروم باول، الرئيس الحالي للبنك المركزي الأمريكي، كان هو من عينه الرئيس ترامب في ولايته السابقة. والمفارقة الأكبر هي أن الرئيس السابق جو بايدن قرر إبقاءه في منصبه طوال ولايته السابقة، على الرغم من التصادم الصامت بين الرجلين في رؤيتهما لأداء الاقتصاد خلال فترة حكمه.
فقد كان بايدن وفريقه الاقتصادي فخورين بتراجع معدلات البطالة إلى مستويات تاريخية وقياسية تحت إدارته، بالإضافة إلى سرعة نمو الاقتصاد الأمريكي وتعافيه بعد جائحة كورونا وأزمة سلاسل التوريد العالمية. ومع هذه النجاحات، التي كان بايدن يدافع عنها، حافظ البنك المركزي برئاسة باول على نهج متحفظ بشأن معدلات التضخم، التي كانت تسجل أرقامًا تاريخية في حياة الأمريكيين.
حينها، لا يزال باول يؤكد على أن الهدف الأساسي لمؤسسة الاحتياطي الفيدرالي هو تخفيض معدلات التضخم والعودة بها إلى المعدل الطبيعي البالغ 2%، وهو القرار الذي، وفقًا للحسابات الانتخابية في ذلك الوقت، لم يخدم مصلحة الإدارة الديمقراطية السابقة. ومع ذلك، حافظت المؤسسة على استقلالية قرارها بعيدًا عن أي تأثيرات من البيت الأبيض.
خلال هذا الأسبوع، عاد الرئيس ترامب في ولايته الثانية للحديث مجددًا عن ضرورة تغيير توجه الاحتياطي الفيدرالي، وفتح الحديث عن احتمال إقالة رئيس البنك، جيروم باول، الذي أعلن بدوره أنه لن يستجيب لأي ضغوط سياسية من البيت الأبيض أو أي من المؤسسات الفيدرالية. وأضاف أنه سيعمل مع بقية المحافظين في البنك على الإبقاء على الأهداف الثابتة للمؤسسة، وفي مقدمتها محاربة التضخم، مشيرًا إلى أن أي قرار بتخفيض نسبة الفائدة في الوقت الحالي سيؤدي إلى كارثة على الاقتصاد الأمريكي.