أصدر الخبير الدولي شاهين فالي تقريرًا مفصلاً حول اجتماعات صندوق النقد الدولي في واشنطن. ويقدّم التقرير رؤية معمّقة حول طريقة تنظيم الثورة الترامبية داخل النخبة الأمريكية.
ويُعتبر شاهين فالي من أبرز الخبراء الأوروبيين في مجالي الجيواقتصاد والعلاقات الدولية، حيث يشغل منصب مدير برنامج الجيواقتصاد في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية (DGAP) في برلين، إضافة إلى كونه باحثًا رئيسيًا في مركز الجغرافيا السياسية والجيواقتصاد والتكنولوجيا التابع للمؤسسة نفسها.
يمتد نشاط شاهين فالي الأكاديمي والفكري إلى المستوى الدولي، حيث يشغل عضوية مجموعة Observatory Group في واشنطن العاصمة ومجموعة الدراسات الجيوسياسية في باريس، ما يجعله من الأصوات القليلة القادرة على ربط الرؤى الأوروبية بالأمريكية لفهم التحولات الاقتصادية العالمية.
وشغل سابقًا مناصب استشارية رفيعة داخل مؤسسات القرار الأوروبية، إذ كان مستشارًا لرئيس المجلس الأوروبي الأسبق هيرمان فان رومبوي، ثم مستشارًا اقتصاديًا لوزير الاقتصاد الفرنسي آنذاك إيمانويل ماكرون.
ويُعرف شاهين أيضًا بعلاقاته الوثيقة مع كبار صناع القرار المالي في واشنطن، من بينهم سكوت بيسنت، وزير الخزانة الأمريكي في إدارة دونالد ترامب، وأحد أصدقائه وزملائه المقربين.
وانعقدت الأسبوع الماضي في واشنطن الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي، في توقيت مثالي لرصد الاتجاهات العميقة التي تحرك الاقتصاد العالمي، والتوترات التي تهز المؤسسات المسؤولة عن التعاون الدولي في السياسات الاقتصادية.
أبرز ما ميز هذه الاجتماعات كان الاصطفاف الكامل لصندوق النقد الدولي خلف الإدارة الأمريكية وبرنامجها الاقتصادي. فطالما رأى اليسار الراديكالي أن الصندوق أداة للإمبريالية الأمريكية، في حين ظل لفترة طويلة تحت نفوذ أوروبي محدود، من خلال تقليد تعيين مدير أوروبي مقابل رئاسة أمريكية للبنك الدولي، والتحالفات داخل مجلس الإدارة التي حدّت من النفوذ الأمريكي رغم امتلاك واشنطن حق النقض.
لكن منذ وصول إدارة دونالد ترامب، ظهر تحول جديد، دفع الصندوق إلى حالة خضوع تاريخية غير مسبوقة، يمكن وصفها بـ"الفساد الأخلاقي".
حتى مكان انعقاد الاجتماعات كان ذا دلالة رمزية، إذ انعقدت في معهد ميلكن، الذي يحمل اسم الملياردير مايكل ميلكن، أحد أبرز رموز وول ستريت في الثمانينيات ومبتكر "السندات الرديئة" (Junk Bonds) التي ساهمت في أزمة 1987. ميلكن، الذي أدين بتهم تتداول بناءً على معلومات داخلية، حصل على عفو رئاسي من ترامب عام 2020، وعودته إلى الواجهة برعاية صندوق النقد الدولي عام 2025 تعكس توجهًا جديدًا في العلاقة بين المؤسستين.
من البرنامج المالي المخصص للأرجنتين إلى الثقة العمياء بالعملات المشفرة والعملات المستقرة (Stablecoins) باعتبارها مستقبل النظام المالي، بدا الاصطفاف الكامل مع أجندة "أمريكا أولًا" (MAGA) خانقًا وملحوظًا بشكل لافت.
كان موضوع العملات المستقرة والعملات المشفرة وتداعياتها على النظام النقدي الدولي من أبرز القضايا التي أثارت النقاش في واشنطن خلال الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي. ومع ذلك، جاءت الإشارات إليها في المنشورات الرسمية للصندوق محدودة وعرضية فقط، ولم يُشر أي منها إلى قانون GENIUS الأمريكي، الذي يُعدّ من أهم التشريعات المرتقبة لمستقبل التمويل الأمريكي والعالمي.
ويبدو أن هذا التجاهل الرسمي يعكس فجوة متنامية بين السياسات الأمريكية الرسمية والرؤية الدولية لصندوق النقد، ما يثير التساؤلات حول مدى استعداد النظام المالي العالمي للتعامل مع التحولات الرقمية المقبلة.
شهدت اجتماعات هذا العام لصندوق النقد الدولي تباينًا واضحًا في الرؤى حول العملات الرقمية وأنظمة الدفع. فهناك من يرى أن أنظمة الدفع منفعة عامة يجب أن تبقى تحت إشراف الدولة، وهو توجه تتبناه الصين وأوروبا، بينما تميل دول أخرى إلى توجه ليبرالي أوسع. وفي المقابل، هناك من يميز بين "المال" و"الأصول المالية"، مؤكدين أن المال يجب أن يظل ملكية عامة، وهي أيضًا رؤية تقودها الصين والاتحاد الأوروبي.
قبل ستة أشهر، كانت الصورة المميزة لاجتماعات الربيع تتمثل في المديرة العامة كريستالينا جورجييفا وهي ترتدي دبوسًا على شكل منشار قدمه لها وزير مالية الأرجنتين، فيديريكو ستورزينيغر. أما هذا العام، فكانت الصورة الرمزية هي جورجييفا على المنصة الرئيسية للصندوق وهي تتحدث عن العملات المشفرة والعملات المستقرة بجانب جيريمي ألار، الرئيس التنفيذي لشركة Circle، دون أي إشارة إلى مخاطر التحويل أو غسيل الأموال المرتبطة بهذه الأدوات المالية.
نجحت شركة Circle في تقديم عرض علاقات عامة متميز، كونها الراعي الرئيسي لمؤتمر معهد التمويل الدولي في واشنطن. وقد أثار هذا الموقف دهشة واستياء العديد من المصرفيين الأوروبيين ومسؤولي البنوك المركزية، الذين عبّروا في الكواليس عن عدم تصديقهم لهذا التوجه.
على النقيض من موقف صندوق النقد الدولي، أصدر مجلس الثلاثين (G30)، بقيادة الاقتصادي كين روجوف، تقريرًا مهمًا حول ماضي ومستقبل النقود، حذّر فيه صراحة من المخاطر المرتبطة بالعملات المستقرة، داعيًا إلى تسريع تطوير العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDC)، وهو ما ترفضه الإدارة الأمريكية حتى الآن.
وفي سياق متصل، نشر الاقتصادي الفرنسي جان تيرول تحذيرًا صارمًا في مجلة The Economist، فيما أصدر بنك التسويات الدولية (BIS) دراسات معمقة تحذر من تهديد هذه العملات للاستقرار المالي العالمي.
ورغم كل هذه التحذيرات، يبدو أن صندوق النقد الدولي – أو على الأقل قيادته الحالية – أصبح متأثرًا بشدة بالتوجهات والسياسات الأمريكية.
أظهرت اجتماعات مجموعة Euro50 في واشنطن بوضوح اتساع الهوة بين الموقفين الأمريكي والأوروبي تجاه العملات الرقمية والمستقرة. فقد أكد محافظ بنك إسبانيا بابلو هيرنانديز دي كوس وعضو المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي بييرو تشيبولوني رفض أوروبا استخدام العملات المستقرة، دون تقديم بدائل عملية واضحة.
ويواجه الجانب الأوروبي نقصًا في الاتساق السياسي، إذ يتردد في تقييد نمو العملات الخاصة خوفًا من الاتهام بمعاداة الابتكار، كما أنه لم يمنح اليورو الرقمي الدور الكامل الذي يحتاجه ليصبح بنية تحتية سيادية للدفع على المستويين المحلي والعالمي.
كما تضغط البنوك الأوروبية، التي تخشى تآكل قاعدة ودائعها، لفرض حدود منخفضة على حجم المحافظ الرقمية، ما يقلص قدرة اليورو الرقمي على أن يكون وسيلة دفع واحتفاظ فعالة بالقيمة.
في هذا السياق، وجد البنك المركزي الأوروبي (ECB) نفسه بين المطرقة والسندان، فيما يُتوقع من المشرعين الأوروبيين أن يوضحوا مدى استعدادهم لتبني مشروع نقدي رقمي سيادي بالكامل.
أما غياب صندوق النقد الدولي عن هذه المناقشات الجوهرية فكان واضحًا، ويُعزى إلى خوفه من إغضاب الإدارة الأمريكية وحلفائها من دعاة العملات المشفرة.
في المقابل، أظهر الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي استقلالية أكبر، إذ أشار محافظه مايكل بار خلال أسبوع التكنولوجيا المالية (Fintech) في واشنطن إلى المخاطر الكبيرة لقانون GENIUS وتوسع العملات المستقرة.