في عالم كرة القدم المعاصر، حيث باتت لغة المال هي الصوت الأعلى، وحيث تتسابق الاتحادات والأندية لإنفاق الميزانيات الضخمة بحثاً عن الإنجاز السريع، يقف المنتخب الأردني شامخاً كاستثناء يكسر القواعد التقليدية.
إن تجربة "النشامى" لم تعد مجرد طفرة عابرة أو حماسة لحظية، بل تحولت إلى نموذج دراسي مجاني يُقدم لكافة الاتحادات العربية والآسيوية حول كيفية صناعة المجد بالإمكانيات المتاحة، والرهان على العنصر البشري بدلاً من الاعتماد الكلي على الخزائن الممتلئة.
من كأس العرب إلى آسيا: إستراتيجية التراكم
ما حققه الأردن بالوصول إلى نهائي كأس آسيا، والاستمرار بالزخم والقوة أنفسهما في تصفيات كأس العالم، يثبت بالدليل القاطع أن الأداء المشرف في "كأس العرب" بقطر لم يكن وليد الصدفة، السر يكمن في مبدأ "الاستمرارية" والمراكمة على المنجزات. فبينما تقوم منتخبات أخرى بنسف مشاريعها عند أول تعثر، واصل الأردن البناء على مكتسباته، محولاً الأداء القوي إلى ثقافة فوز راسخة وعقلية لا تقبل الهزيمة بسهولة.
المفارقة الفنية: دوري متواضع ومنتخب شرس
لعل الدرس الأقسى والأبلغ الذي يقدمه النموذج الأردني يبرز عند عقد مقارنة غير مباشرة مع وضع الدوري السعودي والمنتخب السعودي في الآونة الأخيرة.
فبينما يمتلك الدوري السعودي ألمع نجوم العالم وميزانيات فلكية، يعاني منتخبه الوطني تذبذبا في المستوى وتراجعا في النتائج، في المقابل، ورغم أن الدوري الأردني يعاني شحَّ الموارد المالية ويخلو من الأسماء العالمية الرنانة، فإنه يقدم كرة قدم حديثة، وتكتيكاً منظماً يتفوق بوضوح على منتخبات تفوقه ميزانيةً وشهرة.
هذا يثبت حقيقة ناصعة: قوة الدوري تسويقياً وجلب النجوم الأجانب لا يعني بالضرورة قوة المنتخب وطنياً إذا غاب التخطيط لتطوير اللاعب المحلي.
نجح القائمون على الكرة الأردنية في ترسيخ مفهوم "الفريق النجم"، لا يعتمد الأردن على لاعب واحد ينتظر الجميع منه الحل السحري، بل يعتمد على منظومة جماعية متكاملة، وحتى النجوم البارزون، مثل موسى التعمري ويزان النعيمات، يعملون كتروس في ماكينة "النشامى"، يخدمون المجموعة ولا يتعالون عليها وفي غيابهم تستمر المنظومة بنجاح.
هذه الروح القتالية الجماعية تعوض الفوارق الفنية التي قد تظهر أمام منتخبات النخبة، مثل كوريا الجنوبية أو اليابان، وتجعل من الفريق كتلة واحدة يصعب اختراقها.
الاستقرار الفني والصبر المؤسسي
أحد أهم أركان التجربة الأردنية هو الاستقرار الفني والصبر على المدربين، التعامل مع الأجهزة الفنية يتم وفق مشروع طويل الأمد، وليس بنظام القطعة حسب نتيجة مباراة واحدة.
هذا الاستقرار منح اللاعبين الثقة، وجعلهم يتشربون الأفكار التكتيكية بمرور الوقت، حتى أصبح الفريق يلعب بشخصية واضحة وهوية فنية مرنة تعرف متى تهاجم بضراوة ومتى تدافع بانضباط.
الثقة في اللاعب المحلي: الاستثمار الحقيقي
أكبر مكسب حققه الأردن هو الاستثمار في عقلية اللاعب المحلي، لقد تم تحويل اللاعب الأردني من لاعب محلي التفكير إلى لاعب يمتلك عقلية احترافية، لا يهاب الأسماء الكبيرة ولا الملاعب الصاخبة.
هذه الثقة التي زرعها الاتحاد والجهاز الفني جعلت اللاعب الأردني يدرك أن قيمته الفنية لا تقاس بقيمة عقده المالي، بل بما يقدمه من جهد وعرق على أرض الملعب.