عرضت إحدى قنوات التلفزيون الفرنسية، منذ يومين، ريبورتاجا مطولا حول استعدادات المواطنين النمساويين لاستقبال "الجنرال الشتاء"، وتأهبهم لموجات ارتفاع أسعار الكهرباء والغاز والانقطاع المتواتر للمحروقات وربما تقسيطها، بسبب تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على اقتصاد بلادهم.
مواطنون يخزنون، دون فزع أو تدافع أو لهفة تعرفها أسواقنا التونسية، منذ أن عرفت انقطاع العديد من المواد الاستهلاكية، ما يضمن لهم عيشهم بدءا من علب الكبريت والشموع مرورا بالمعجنات والخضر واللحوم المحفوظة وانتهاء بالمولدات الكهربائية والجرارات الفلاحية، التي يمكن أن تشغل هذه المولدات في حال تعطلها.
الجميل أن كل هذه الاستعدادات تتم بهدوء وفي أجواء من البهجة والنكتة، لأن "الجنرال الشتاء" تأخر هذه السنة ولم يُحرم المواطنون من التمتع بكؤوس من الجعة الباردة، كما تتم في أجواء من التضامن والتنسيق، التي تدعو للإعجاب، لمواجهة صعوبات عيش قادمة.
أجواء التضامن والتنسيق والهدوء لاستباق الأزمات ومعالجة ما استجد منها، تكاد تغيب عن اجتماعات دول الاتحاد الأوروبي التي طُبعت أخيرا بالتوتر وتبادل الاتهامات رغم اللغة الدبلوماسية التي تُغلَف بها البيانات الصادرة عن هذه الاجتماعات.
ولعل من أهم أسباب هذا التوتر، الذي تميزت به خاصة العلاقات بين ألمانيا وفرنسا، وهما من المؤسسين الست للمجموعة الاقتصادية الأوروبية سنة 1957، وتعتبران النواة الصلبة للاتحاد الاوروبي حاليا، هذا المنزع السيادي، إن لم نقل الانعزالي الذي تتهم ألمانيا بالذهاب فيه وإيجاد طريق خاص بها لمواجهة الأزمة الاقتصادية التي تعيشها حاليا، بسبب تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على اقتصادها، بل على اقتصادات بلدان العالم إجمالا.
في هذا الصدد لم يرق لفرنسا، التي تريد "مزيدا من أوروبا"، أي مزيدا من التنسيق بين أعضاء الاتحاد الأوروبي لإيجاد حلول لبلدان القارة وفي استقلال كامل عن الهيمنة الأمريكية، أن تفاجئ ألمانيا شركاءها بضخ 200 مليار يورو لمواجهة ارتفاع أسعار الكهرباء والغاز، وهو ما أثار حفيظة فرنسا بسبب إمكانية أن يؤثر هذا القرار على المنافسة في السوق.
من جهة أخرى، وقعت ألمانيا، على هامش مؤتمر حلف الناتو الأخير، اتفاقية مع 14 دولة أوروبية، ليس منها فرنسا، على مشروع للدفاع الجوي. وفي خرق لاتفاقيات سابقة مع فرنسا أيضا، اقتنت ألمانيا معدات عسكرية باهظة التكلفة من الولايات المتحدة، بدلا من شراء ما يوازيها من كبريات الشركات الفرنسية لصناعة الطائرات.
وبالرغم مما قيل عن الاجتماع الأخير للرئيسين الفرنسي والألماني في باريس لتجاوز الخلافات بين البلدين بسبب هذه المبادرات التي تجاهلت فيها ألمانيا شريكها الفرنسي، من أنه تم في جو من الشراكة المتبادلة، فإن تأخير اجتماع وزاري من البلدين إلى بداية 2023، وكان يُفترض أن يُعقد الأسبوع الماضي، ولم يحدث أن تأجل هذا الاجتماع الدوري منذ 50 سنة، جعل العديد من الدوائر السياسية والإعلامية تتحدث عن تصدع في الاتحاد الأوروبي وتداعيه.
غير أن بعض المحللين الأوروبيين الآخرين، مثل الفرنسي أرتور شوفالييه، لا يرى داعيا لبروز مخاوف من تداعي البناء الأوروبي أو سقوطه أو حتى اهتزازه، على أوروبا، فقط، وكما يقول، أن تتخلى عن أوهامها وأساطيرها؛ أوهام وأساطير الوحدة المتماسكة التي لا يشقها أي خلاف.
إن من طبيعة أي اتحاد، كما يضيف شوفالييه، تأصل الخلاف والصراع فيه، وبالتالي من الخطأ الاعتقاد أنه يمكن للمؤسسة الأوروبية تجنب النزاعات من أي نوع، و هذه النزاعات لا تؤدي بالضرورة إلى التصدع والقطيعة.
لو راجعنا تاريخ العلاقات بين فرنسا وألمانيا، وبين الدول الواقعة غرب القارة العجوز عموما، لرأينا أنه لم يكن دائما تاريخ حرب ولا تاريخ سلام دائم، بل كان أيضا قائما على تقلبات وتوترات وعلى اتفاقيات تصمد أحيانا وتنهار أحيانا أخرى، اتفاقيات عقب حروب كبرى ومجازر تاريخية وعمليات غزو وضم أراضٍ، كما كان الشأن بالمجازر التي اقترفتها الجيوش الفرنسية عام 1674 بألمانيا، في عهد لويس الرابع عشر، والتي يعدها المؤرخون السبب الأصلي للعداء التاريخي بين البلدين، أو بضم الألزاس واللورين عام 1939 من طرف ألمانيا أو الاحتلال النازي لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية.
ولكن الشعبين كانت لهما القدرة على إجراء المصالحة بينهما ثم التقارب إثر انتهاء الحرب وصولا إلى الوحدة الاقتصادية الأوروبية عام 1957، حيث كانت فرنسا وألمانيا النواة الصلبة لهذه المجموعة التي توسعت بعد هذا التاريخ.
لقد أدركت فرنسا وألمانيا آنذاك أن وقتا طويلا مضى في الحرب ويجب المرور إلى السلم والبناء المشترك لتنمية أوروبا وتحقيق رفاهها وسلمها وسيادتها إزاء قوتين كبيرتين، هما آنذاك الكتلة الشرقية والولايات المتحدة.
ولكن هذا الطموح ليس كافيا لتجنيب حدوث خلافات أو نزاعات، ليس فقط لأنه لا يمكن نسيان الماضي بتاتا، ماضي الحروب والصراعات على المصالح، وليس فقط لأن الاتحاد الأوروبي فشل في وضع آليات لفض النزاعات والحيلولة دون تفاقمها وتحولها إلى أشكال مميتة، بل لأن من طبيعة الكيانات السياسية التي تم توحيدها ألا يقفز أعضاؤها على تاريخها وعلى أجنداتها ومصالحها الخاصة.
لذلك، لا يمكن الحفاظ على البناء الأوروبي إلا وفقا لتاريخ بلدانه، ودون أوهام، وأن تؤخذ هذه البلدان، كما يقول أرتور شوفالييه "على حقيقتها، فهي متغيرة، ولا يمكن التنبؤ بها، ومع الأسف هي أنانية".
المجموعة الأوروبية التي أرادها ديغول وأديناور، في الخمسينيات، سمفونية خالية من أي نشاز، تعزف الآن بشكل منفرد، وبأكثر من يد.