logo
كتاب إرم

لهم الحساء الساخن .. ولنا الأسلاك الشائكة

لهم الحساء الساخن .. ولنا الأسلاك الشائكة
11 ديسمبر 2022، 5:23 ص

ضحيتان من ضحايا الفقر والنزاعات والحروب والأحلام المشروعة التي تحلق في فضاء غير مناسب.

هو، أبو يوسف، والد لطفلين وابن لأبوين فتك بهما المرض، وزوج صبية تحلم كما تحلم الصبايا في سنّها، دفع ذخيرة العمر ليصل من سوريا إلى تركيا، يعمل نهاراً في مصنع لخياطة الجينز، وليلاً يغسل الصحون في مطعم شعبي.

هي فاطيمتو، آنسة من مالي، عملت سنوات ممرضة.. جزء من راتبها كان يذهب لوالديها اللذين لم يغادرا قريتهما، ظل الأب يرعى بعض الماعز، وظلت الأم تربي الأطفال الخمسة الباقين. بقية الراتب الشهري بالكاد تكفي لقضاء بعض الحاجيات ودفع إيجار غرفة تكاد تتسع لسرير واحد ولطاولة قديمة وضع عليها موقد غاز صغير.

للشاب السوري والآنسة المالية قصص مرعبة مع داعش ومع تنظيم باكو حرام؛ هذه القصص التي تعرض التلفزيونات العالمية العشرات من أمثالها يمكن أن نتخيلها، وهي التي دفعتهما إلى الهجرة.

حلم الطيران من واقع الموت والبؤس إلى جنة تتحقق فيها بعض الأحلام، قادتهما في رحلة طويلة وشاقة، جواً، إلى ألمانيا. الجمارك الألمانية توقف المُهاجرَيْن، جواز أبو يوسف إسرائيلي مُقلد وبشكل مفضوح لأن الكتابة العبرية كُتبت على غلاف الجواز بشكل معكوس.

سذاجة فاطيمتو قادتها إلى ارتداء نفس الجاكيتة المخططة التي كانت ترتديها صاحبة الجواز الأصلي التي تشبه فاطيمتو بشكل عجيب. هذا الجواز مسروق وبيع لفاطيمتو بسبعة آلاف دولار. فطنة رجل الجمارك الألماني جعلته يتساءل ما إذا كان لهذه المسافرة أن ترتدي ثوباً آخر، لولا أن هنالك حرصا على إثبات الهوية المُدلسة؟

سردية المهاجرَين الموقوفين بسبب حمل جواز مزور تتوالى على شاشة الخبير الدولي الذي كان يدير دورة تدريبية حول وسائل تزوير وكشف وثائق الهوية والسفر المزورة.

الحصار البحري الذي هددت به جيورجيا ميلوني، رئيسة وزراء إيطاليا الحالية، أثناء حملتها الانتخابية، لم يطبق على الأوكرانيين، فيما تستعد لتنفيذ إجراءات قمعية إزاء المهاجرين الأفارقة والقادمين من بلدان الشرق الأوسط

كنت أترجم للخبير الدولي وأتساءل: هل كان سيحصل أبو يوسف وفاطيمتو حقاً على بطاقة إقامة أو بطاقة لجوء حتى لو نجحا في العبور إلى جنة أحلامهما، أم أن معسكرات الاعتقال والعودة القسرية ستكون في انتظارهما؟

وفقاً لتقديرات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، كان هنالك في شهر يونيو 2021 أكثر من 84 مليون نازح وطالب لجوء في العالم، وقد ساهم عدم استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية في العالم، خلال السنوات الأخيرة الماضية، في زيادة غير مسبوقة في عدد الأشخاص الذين أجبِروا على الهجرة.

هذه المعطيات لا تأخذ بعين الاعتبار 5 ملايين أوكراني فرّوا من جحيم الحرب بعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، ولا عدد الأفغان الذين غادروا البلاد بعد انسحاب الجيش الأمريكي وتنصيب طالبان في اغسطس 2021.

وضع المهاجرين تنظمه اتفاقية جنيف لعام 1950، وتنص مادتها الأولى على اعتماد مبدأ الكونية في استقبال المهاجرين وحمايتهم، فلا تمييز في توفير هذه الحماية بينهم على أساس عرقي أو ديني أو سياسي أو غيره، غير أن الحكومات الغربية تضرب بشدة هذا المبدأ فتضع حدوداً بين المهاجرين "الطيبين الأخيار"، الذين يشبهون مواطنيهم، وبين "المهاجرين الغرباء الأشرار".

التقارير الأممية وتلك التي تنشرها بعض المنظمات الحقوقية مُطولة حول هذه الممارسات التمييزية الانتقائية، ونكتفي هنا بذكر بعض الأرقام والمعطيات التي تذكرها هذه التقارير، إثر تفاقم هذه الممارسات مع توسع الحرب الروسية الأوكرانية وطول أمدها، إذ تفيد المنظمة الدولية للهجرة أن إيطاليا استقبلت حتى شهر يوليو 2022 حوالي 15 ألف مهاجر قدموا من الشواطئ الليبية، وجل هؤلاء من بلدان جنوب الصحراء وسوريا ومصر والعراق، وحوالي 5 آلاف مهاجر من تونس مقابل 145 ألف أوكراني..

هذا يعني أن الحصار البحري الذي هددت به جيورجيا ميلوني، رئيسة وزراء إيطاليا الحالية، أثناء حملتها الانتخابية، لم يطبق على الأوكرانيين، فيما تستعد لتنفيذ إجراءات قمعية إزاء المهاجرين الأفارقة والقادمين من بلدان الشرق الأوسط، منها الإغلاق التام للموانئ في وجوههم، والتقليص في الأموال التي كانت مخصصة لاستقبالهم، وتطبيق تشريعات قمعية لردع الحالمين بالهجرة عبر أراضيها، وذلك حفاظاً على "أمنها القومي".

نفس السياسة التمييزية القمعية تطبقها الحكومة الإسبانية التي قتلت شرطتها أخيرا 37 مهاجرا إفريقيا حاولوا تسلق الأسلاك الشائكة المحيطة بمدينة مليلة المغربية، التي لا تزال إسبانيا تواصل احتلالها، فيما يستضيف بيدرو سانشيز 134 ألف لاجئ أوكراني.

بنفس السخاء، تستقبل ألمانيا، التي أصبحت تطبق سياسة شديدة التقييد، في خصوص استقبال المهاجرين، نحو مليون لاجئ أوكراني، مُيسرة لهم الحصول على سكن وعمل ومدارس لأطفالهم.

ثمة انفصام واضح في سياسات الحكومات الغربية الخاصة باستقبال المهاجرين وطالبي اللجوء، وتطبيق للمعايير المزدوجة، ولم يُخف بعض السياسيين وجل رجال الإعلام الغربيين هذا الانفصام وهذه المواقف المزدوجة

التعاطف مع الأوكرانيين على أشده في فرنسا، والبيوت ومراكز الإيواء والمؤسسات العمومية والخاصة تستقبل موجات اللاجئين دون عدٍ، فيما تقيم معسكرات الإيقاف لغيرهم من اللاجئين.

وفي بولندا والمجر، لم تعد سياسة "اللجوء الصِفري" مطبقة عندما يتعلق الأمر بالقادمين من أوكرانيا هربا من جحيم الحرب، الذين تتولى القطارات والحافلات نقلهم الى أرض آمنة.

نفس السياسة الانتقائية العنصرية تطبقها أمريكا، بلد الحرية والديموقراطية، إذ تستقبل آلاف الأوكرانيين، فيما تحشد القادمين إليها من هايتي والمكسيك وكوبا وفنزويلا وغيرها في معسكرات مغلقة قصد إرجاعهم إلى بلدانهم قسرا.

ثمة انفصام واضح في سياسات الحكومات الغربية الخاصة باستقبال المهاجرين وطالبي اللجوء، وتطبيق للمعايير المزدوجة، ولم يُخف بعض السياسيين وجل رجال الإعلام الغربيين هذا الانفصام وهذه المواقف المزدوجة، التي تكشف عن مركزية أوروبية شديدة الانغلاق والتعصب، عندما كانوا يرددون في بداية الحرب الروسية الأوكرانية "إنهم يشبهوننا"، مبررين تعاطفهم مع الأوكرانيين وتجاهلهم لمأساة الشعب الأفغاني الذي يرزح تحت حكم طالبان الظلامي ورفضهم لطالبي اللجوء الأفغان.

ثمة انفصام في المواقف، وثمة أيضاً مصالح اقتصادية حيوية تدافع عنها هذه البلدان في وقوفها صفا واحدا ضد القطب الروسي، كما ثمة عين على إعادة إعمار أوكرانيا عندما ستضع الحرب أوزارها.

في عيون الغرب البشر صنفان، وكذلك طالبو اللجوء أو المهاجرون؛ أنت لاجئ أوروبي ينتظرك الحساء الدافئ والبيت العامر والبلد الآمن.. وأنت أسمر أو مُلون تنتظرك معسكرات الاعتقال وهراوات الشرطة والأسلاك الشائكة، إذا لم ينتظرك الموت غرقا.

;
logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة © 2024 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC