تثير قضية المديونية شجوناً كبيرة لدى التونسيين، فالكبار منهم والصغار تعلموا من دروس التاريخ بمراحل دراستهم الأولى، أن التداين الخارجي المفرط لبلادهم كان سبباً في وضع الوصاية عليها ثم احتلالها من قبل فرنسا في نهاية القرن التاسع عشر.
حتى منتصف ذلك القرن، كانت تونس بلداً زراعياً ينتج ما يغطي احتياجات البلاد، ولم تكن في حاجة إلى تسول البنوك الأجنبية والوسطاء لتحصل على قروض بفوائد مُشطة، حتى اعتلى عرشها الصادق باي سنة 1850..
وبدأ مسلسل الاقتراض والارتهان للخارج وفقدان السيادة، بعد أن دبّ الفساد في رأس السلطة وفي حاشية الباي من الوزراء، وعلى رأسهم الوزير الأكبر مصطفى خزندار، الذي غطى على سرقات ونهب المال العام من طرف مسؤول خزينة الدولة محمود بن عياد، الذي مد يديه، كما يذكر المؤرخون، إلى 60 مليون فرنك من المال العام، أي ما يعادل 4 مرات ميزانية الدولة التي لم تكن تتجاوز 15 مليون فرنك، وفرّ بها إلى فرنسا..
وعلى نهجه سار خلفه في الإشراف على الخزينة اليهودي نسيم شمامة، الذي استطاع أن يقرض الدولة مبالغ كبيرة تأتت له من عمولات وصفقات مشبوهة عديدة، ثم فرّ بدوره إلى فرنسا مُحملاً بالثروة الطائلة التي جمعها.
التداين الخارجي المُشط لن يكون حلاً لتجاوز تحديات الحاضر بالنسبة لتونس، إذ يمكن المراهنة على ذكاء التونسيين وعلى وطنيتهم للخروج من مآزقهم الحالية لو توفرت لمركبهم الفاقد للبوصلة قيادة حكيمة.
الباحث إيريك توسان الذي يُدرّس التاريخ بجامعة لياج البلجيكية، يصف، في دراسة مطولة وموثقة، مسلسل الفساد الداخلي الذي أدى لانهيار المالية التونسية، انطلاقاً من سنة 1863، بسبب توجه السلطة إلى التبذير في تشييد القصور وشراء أسلحة فاسدة وإغداق الهدايا على المتنفذين من الأجانب، وبسبب وقوعها ضحية عمليات نصب مُتتالية، وبالذات من الوسيط الفرنسي ورجل الأعمال ايمل ايرلانغلار، وقد أدت عمليات النصب هذه، في النهاية، إلى وقوع تونس تحت وصاية لجنة مالية دولية ترأسها فرنسا وتتولى الحصول على كل مداخيل البلاد المالية وتوزيعها على الدائنين ثم استغلال فرنسا فرصة وهن البلاد وضعفها لبسط الحماية عليها وإعلان احتلالها يوم الـ12 من مايو 1881.
الذاكرة الجَمعية التونسية تسترجع هذا التاريخ وهي تتابع البحث المُضني للحكومة الحالية للحصول على قروض تمكّنها من تغطية عجز ماليتها على تلبية العديد من حاجيات مواطنيها الأساسية، وعلى الاستثمار في مشاريع كبرى تنتج الثروة، وعلى إصلاح المؤسسات العمومية وحسن إدارتها..
هذا البحث أفضى بعد مشاورات مع صندوق التقد الدولي، دامت سنة ونصف السنة، إلى موافقته المبدئية على تمكين تونس من قرض بمليار وتسعمائة مليون دولار يصرف، في حال موافقة مجلس إدارة الصندوق على أربع سنوات، إلا أن التونسيين فوجئوا قبيل إجراء الانتخابات التشريعية بأيام قليلة بأن هذه الهيئة الدولية سحبت ملف تونس من أجندة اجتماع مجلس إدارتها المقرر ليوم غد الـ19 من ديسمبر وتأجيل دراسة استكماله إلى شهر يناير من العام المقبل.
لقد أحدث هذا القرار ضجة كبرى في الأوساط السياسية والاقتصادية والإعلامية بتونس، خاصة أن قرار تأجيل النظر في الملف التونسي تزامن مع مشاركة الرئيس قيس سعيّد في القمة الأمريكية الأفريقية؛ ما رأى فيه بعض المحللين فشلاً للدبلوماسية التونسية في كسب دعم الولايات المتحدة لتونس للحصول على هذا القرض.
كما يدعم هذا التحليل الموقف القائل إن أسباب التأجيل ليست تقنية تخص فقط بعض تفاصيل مشروع ميزانية 2023 الذي قدمته الحكومة التونسية لصندوق النقد الدولي وإنما الأسباب الحقيقية لهذا التأجيل، أو لهذا الرفض، كما يراها الخبير الاقتصادي البارز عز الدين سعيدان، هي أسباب سياسية.
يبدو أن تونس لم تنجح في الحصول على مزيد من القروض، وهي الملزمة بتسديد العديد منها، ولم يبقَ لها إلا فرض مزيد من الضرائب على المواطنين ورفع الدعم الذي يعيش عليه أكثر من ثلاثة أرباعهم.
ولا شك أن طول مدة المفاوضات بين الطرف الدولي والطرف التونسي حول الحصول على هذا القرض، والتي لا تتجاوز في العادة بالنسبة للدول الأخرى سوى شهرين أو ثلاثة، كان يشي بصعوبة بناء جسور من الثقة بين الهيئة الدولية والحكومة التونسية، خاصة أن الحكومات السابقة والتي توالت بعد الثورة قد فشلت في تحقيق الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي تعهدت بها للصندوق خلال منحها قروضاً في السنوات 2013 و2014 و2018، من أجل دعم مسار الانتقال الديمقراطي للبلاد الذي تعثر على أكثر من جبهة.
لذلك، كان من الطبيعي أن تطالب الهيئة المالية الدولية تونس بمدها بمشروع قانون مالية تكميلي لسنة 2022 ومشروع ميزانية 2023 موقع من طرف رئيس الجمهورية، وهو ما لم يحدث؛ ما يعكس حالة من التناقض والتخبط بين خطاب رئاسة الحكومة التي تجد نفسها مضطرة بقبول إملاءات صندوق النقد الدولي، ومنها خاصة الرفع التدريجي أو حتى إلغاء صندوق التعويض الذي يدعم المواد الأساسية والتفويت في المؤسسات العمومية التي انهارت خلال العشرية السوداء بسبب سوء إدارتها، وبين خطاب رئيس الجمهورية الذي يؤكد، استمالةً للشارع التونسي، أنه لن يرفع الدعم عن المواد الأساسية ولن يبيع المؤسسات العمومية المفلسة وإنما سيتم إصلاحها من الداخل.
إن رفض رئيس الجمهورية توقيع مشروع ميزانية 2023 المقدم لصندوق النقد الدولي لم يوفر، ولا شك، الاطمئنان اللازم لمسؤوليه في قدرة تونس على الإيفاء بتعهداتها للصندوق، خاصة أن هذا الأخير ينظر في مدى التزام تونس رسميًّا بتعبئة موارد مالية إضافية تمكّنها من تغطية نفقات الدولة ومن توفير حظوظ لإنجاح برنامج الإصلاحات الذي تقدمت به للهيئة المالية الدولية.
على المستوى الخارجي، يبدو أن تونس لم تنجح في الحصول على مزيد من القروض، وهي الملزمة بتسديد العديد منها، ولم يبقَ لها إلا فرض مزيد من الضرائب على المواطنين ورفع الدعم الذي يعيش عليه أكثر من ثلاثة أرباعهم.
وتمثل قضية رفع الدعم على المواد الأساسية وتوجه الحكومة إلى بيع العديد من المؤسسات العمومية، بدلاً من حوكمتها وإصلاحها، نقطتي خلاف حادتين بين منظمة الاتحاد العام التونسي للشغل، الاكثر وزناً وتأثيراً على المستوى الوطني، حيث ترفض المنظمة الشغيلة هذا التوجه دون العودة إليها، كما ارتفعت خلال المدة الأخيرة أصوات أمينها العام وقياداتها منددةً بالضبابية والغموض اللذين سادا المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وبعدم نشر بنود الاتفاق ليطلع عليه التونسيون وتقدير أثره السلبي على حياتهم.
يعترف العقلاء من التونسيين بثقل التركة التي ورثتها الحكومة الحالية وأثرها على الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعيشها البلاد حاليًّا، ولكنهم يتساءلون إن لم يكن عجز الحكومة الحالية على إدارة هذه الأزمات وفشلها في طرح رؤى ووضع إستراتيجيات واضحة ومدروسة بالاستعانة بالعديد من الكفاءات التونسية، ذات الإشعاع الدولي والمُجمدة على المستوى الوطني بتعلة أنها اشتغلت مع النظام السابق، وتثمين الثروات الطبيعية التي تزخر بها تونس، والمراهنة على النهوض بقطاعات إستراتيجية، مثل: الفلاحة، مع تنشيط الدبلوماسية التونسية لكسب ثقة الأصدقاء من الدول المانحة، والهيئات المالية الدولية التي توفر القروض بشروط غير مُهينة، كفيلاً بتوجيه تونس إلى سيناريوهات كارثية، لا سمح الله، تذكرهم بحالة الوهن والضعف، التي قادت تونس إلى ما انقادت إليه، في نهاية القرن التاسع عشر، من فقدان السيادة، مع اختلاف الفاعلين واختلاف السياقات.
التداين الخارجي المُشط لن يكون حلاً لتجاوز تحديات الحاضر بالنسبة لتونس، إذ يمكن المراهنة على ذكاء التونسيين وعلى وطنيتهم للخروج من مآزقهم الحالية لو توفرت لمركبهم الفاقد للبوصلة قيادة حكيمة.