logo
اتجاهات

مع العم خيري (1 من 2)

مع العم خيري (1 من 2)
16 يونيو 2022، 1:35 ص

هو نسيجُ وحده، صنع عالماً روائياً مترامي الأطراف، لم يتأثر فيه بأحد ولم يقلد خلاله مشروعاً غربياً لكي يجلب لنفسه الاحتفاء النقدي، ولم يجرِ وراء صَرْعات تبعده عن القارئ وتنسيه غوايته الأثيرة: غواية الحكي، وهو فوق كل ذلك شخصية فريدة تعلمنا كيف يكون الأديب وفياً لعالمه الذي يكتب عنه وله.

وكيف يعزل نفسه عن "واغش" الحياة الثقافية احتراماً لقلمه وفنه، وكيف ينجح في الوصول إلى قارئه دون أن تكون له شلة نقدية أو قعدة أنصار وموالين، ودون أن يعرض إبداعه على أحد مستجدياً التقدير أو التقييم، محققاً نجاحه بالاعتكاف في تلك المقبرة التي ظل يكتب فيها لسنوات متفرداً بكآبته وصبابته وعنائه، مفضلاً صحبة أموات المقابر على "زومبيز" التجمعات الثقافية، ليكون نموذجاً ملهماً للقدرة على الإنجاز دون صخب أو طنطنة.

وقعت في هوى الأستاذ خيري شلبي منذ أن وقع بالصدفة في يدي كتابه الفذّ (موّال البيات والنوم) الذي اشتريته من أحد أكشاك شارع النبي دانيال بالإسكندرية، فقط لأنني أعجبت بغلافه وبتلك الأبيات الساحرة التي صدّر بها كتابه والتي سيرافقني معناها ما حييت:

"إزاي أفضل أهيم

ع الخط المستقيم

من حارة لجوّه حارة

وأفضل قلبي سليم؟".

لم أكن أعرف وقتها الكثير من شعر فؤاد حداد الذي أهدى خيري شلبي له كتابه بالاشتراك مع صديقه المثقف الكبير إبراهيم منصور، ولم أكن أعرف أن الأيام ستجعلني أدرك قيمة ذلك الكتاب الذي لن يقدّره حق قدره إلا من جرّب عناء الفقر والبحث عن مأوى ومحاولة الهروب من مقصلة القاهرة، المدينة اللغز، ولم أكن أعرف أن الأيام ستجعلني قريباً من العم خيري الذي اكتشفت بعد التعرف على زملائي في كلية الإعلام بجامعة القاهرة أن ابنه الأكبر زين العابدين زميل دفعة، ولم يكن العم خيري وقتها ينال ما يستحقه من الحفاوة والتقدير.

بالطبع سعيت للتعرف أكثر على زين، ولزقت له في الرايحة والجاية لعله يأخذني لزيارة والده في أقرب فرصة، وأظن أن عم خيري وقف في طريق صداقتي بزين ومنعها من أن تكون صداقة حميمة..

فبالتأكيد "اتخنَق" زين من سؤالي له في كل فرصة ممكنة عن أبيه وطقوسه في الكتابة والحياة وما إذا كان ما رواه في كتابه حقيقياً مئة في المئة أم أنه مزيج بين الحقيقة والخيال، وهي أسئلة تليق بناقد في مجلة (الكرمل) لا بشابين من دور بعض، حتى جاء اليوم الذي قرر فيه زين أن يستريح من غلاستي، أو من اكتفائي بالحديث عن (موّال البيات والنوم) التي لم أقرأ لأبيه غيرها، وحمل لي رواية (الوتد) مصحوبة بإهداء جميل، لعل عم خيري كان يسبّني وهو يكتبه لأن زين ظل واقفاً على دماغه حتى يكتبه.

قرأت تلك الرواية القصيرة المكيرة وأنا أجلس على أرضية متسخة في ركن من أركان قطار درجة ثالثة حقير، كنت مسافراً عليه في ليلة شتوية عائدا إلى الإسكندرية، لكي آكل لقمة بيتي وأنام نومة نظيفة ولو لليلة، وحين توقف القطار عند بركة السبع لسبب غامض لأكثر من ثلاث ساعات كنا فيها سجناء العربيات المفتوحة من كل ناحية للمطر الغزير والبرد الزمهرير، كانت (الوتد) خير جليس لي في تلك الليلة الليلاء التي توحدت فيها مع عالم (الوتد) وعشقت ناسها واتخذتهم ونساً ودفئاً، قبل أن أهجرهم مضطراً، لأقع بعدها بقليل في هوى حسن أبو ضب بطل رباعية عمنا خيري الروائية البديعة، ويتقلب قلبي بعدها واقعاً في هوى أبطال العراوي وموت عباءة وبغلة العرش والسنيورة والأوباش والشطار، وعمله الأعظم والأحب إلى قلبي (وكالة عطية).

كنت كلما قرأت رواية لعم خيري زدت في رزالتي وتطفلي على زين الذي زهق مني وقرر أن يصحبني لزيارة ابيه، لأكتشف أن زين وإخوته يا عيني لا يسكنون في بيت، بل في مكتبة لو رأتها ماما سوزان لفكرت في مصادرتها لتطلق اسمها عليها، ولا يزال ماثلاً في ذهني بعد كل هذه السنين وجه عم خيري وهو ينظر بفخر إلى آلاف الكتب التي تملأ جدران البيت وأرضه وكل مساحة متاحة فيه، وحين أخذ يحدثني عن وجود شقة ثانية أصغر، بها كتب لم تتسع لها هذه الشقة، لم يكن يعلم أنني أفكر في طريقة مناسبة لسؤاله عن عنوان الشقة الأخرى التي كنت قد بدأت أفكر جديا في سرقتها، لأن سرقتها ستكون أسهل بالتأكيد من سرقة بيت العيلة.

لم أنقطع بعدها عن التواصل مع عم خيري الذي تشرفت باستكتابه في كل الصحف التي عملت فيها، لكن زياراتي لبيته/مكتبته لم تكن كثيرة كما كنت أحلم، فانهماكه في إنجاز مشاريعه وأحلامه لم يجعل لديه وقتاً للمتطفلين والحالمين بسرقة الكتب من أمثالي..

لكن كل زيارة له أو مكالمة أو لقاء أو سهرة في بيت صديق مشترك، كانت تضيف المزيد إلى قائمة ما أتعلمه منه، وتزيدني حباً في عزة نفسه ونأيه عن كذابي الزفة الثقافية وإخلاصه لما يجيده واتساقه الشديد مع نفسه واحتمائه بأسرته التي أسلم قيادتها لزوجته وأم عياله السيدة الطيبة الجميلة الحنون التي ظلت طيلة حياته وتداً يستند إليه ويشيل عنه هم العيال وبواخة الزمن.

في صيف عام 2007 شرفني العم خيري حين اختارني لكي أقدم احتفالية أقامتها له الجمعية الوطنية للثقافة الفرنسية التي تقع في مدينة بور سعيد، بمناسبة صدور الترجمة الفرنسية لروايته (صالح هيصة) التي استغربت حين عرفت أنها كانت أول عمل له يُترجم إلى الفرنسية..

ومع أنها لاقت نجاحاً كاسحاً حين نشرها هناك، إلا أنني أزعم أن ذلك النجاح كان سيتضاعف لو وصلت روائع مثل (وكالة عطية) أو (الوتد) أو (العراوي) إلى القارئ الفرنسي، وهي ملاحظة أثارت شجون عم خيري التي تضاعفت حين سألته عما إذا كانت ستقام له احتفاليات مماثلة بالمناسبة في القاهرة والإسكندرية وغيرهما من المدن المصرية لكي تتاح له فرصة الالتقاء بالمزيد من قرائه، ليرد مغمغماً: "ومين بقى اللي هينظم لقاءات زي دي؟ هوّه حد فاضي لنا؟"..

وقبل أن أسترسل في حديث ماسخ عن دور المؤسسات الثقافية التي كانت أكثر من الهم على القلب، قاطعني شاخطاً: "خلصني يا ابني، هتيجي معايا بور سعيد ولا لأ؟".

وكأن رحلة كهذه كانت محتاجة إلى سؤال.

...

نكمل الأسبوع القادم بإذن الله.

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة © 2024 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC