جمال دملج
لا يمكن للحديث عن مفاعيل الانخراط السياسي والعسكري الروسي المباشر في أزمات منطقة الشرق الأوسط أن يستوفي حقه كاملاً، على موازين الموضوعية والتدقيق والتمحيص، دون التمعّن جيداً في الحيثيات المتعلّقة بتطوّرين لافتين برزا على هامش اندلاع الحرب السورية في العام 2011، وتمثلا بالآتي:
أولاً، انكشاف النوايا المغلّفة بأسرار الهدنة غير المعلنة التي راحت تسري؛ بشكل مفاجئ، على جبهات القتال المستعرة في منطقة القلمون ما بين مقاتلي حزب الله (اللبناني) ومقاتلي الفصائل الإسلامية (السورية) الأخرى، بالتزامن مع توصل إيران إلى تسوية أزمة برنامجها النووي مع الجانبين الأمريكي والأوروبي في العام 2014.
ثانيائ، ظهور الدلائل القاطعة إثر ذلك، تلقائياً، على أنّ القنوات الرسمية القطرية؛ إعلانياً وإعلامياً، أرادت الاستثمار في تلك الهدنة من خلال توفير الأجواء الملائمة على خطّ الدوحة – طهران – دمشق، بغية فرض معادلة مصلحية جديدة يتمّ بموجبها تخصيص كميات معيّنة من مصادر الغاز الطبيعي في كلٍّ من الحقول القطرية وحقل بارس الإيراني وحقل قارّة السوري، تمهيداً لتصديرها عبر الأراضي التركية إلى دول الاتحاد الأوروبي من أجل منافسة الغاز الروسي هناك.
لم يكن من الصعب على إدارة الرئيس فلاديمير بوتين أن تدرك، منذ البداية، حجم المخاطر التي يمكن أن تواجهها إذا ما قُدر لهذين التطوّرين اللافتين أن يتحولا إلى أمر واقع على الأرض، لاسيما أنّ رائحة الذهب الأزرق التي فاحت لدى اشتعال نار الحدث الأوكراني المتعلّق بالانقلاب، المدعوم أمريكياً وأوروبياً، على الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، الموالي لروسيا، في أواخر العام 2013 وبدايات العام 2014، كانت لا تزال قابلة للالتهاب أكثر فأكثر مع مرور الوقت.
علاوة على ذلك، فإنّ تجلّيات الزهو الإيراني التي راحت تُسجل على هامش اجتماعات "موغيريني – ظريف" بعد الانفراجة النووية، معطوفة على ارتدادات ارتفاع حدّة التراشق المتبادل بالتصريحات الهجومية على جبهة "لافروف – بن جاسم" في موسكو والدوحة، شكّلت في مجملها ما يكفي من العوامل الحاسمة لتحفيز القيادة الروسية على عدم التردّد في خوض حربها ضد الإرهاب فوق الأراضي السورية في 30 أيلول (سبتمبر) العام 2015.
أما على المستوى التركي؛ وهنا يكمن البيت في القصيد، فإنّ اثنين من الخبراء المتخصصين في شؤون العلاقات الدولية لا يمكن أن يختلفا على التفاصيل المتعلّقة ببديهية مؤداها أنّ قيام المقاتلات التركية بإسقاط قاذفة الـ"سوخوي 24" الروسية قرب الحدود السورية في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) العام 2015 اندرج، بكافة إرهاصاته التهوّرية، في سياق "مغامرة طائشة" كانت تستهدف استدراج الجانب الروسي إلى القيام بردّ فوري من أجل إقحامه في مواجهة مباشرة مع حلف شمال الأطلسي.
وللتذكير هنا، فإنّ وقائع المغامرة التركية سُجلت بعد مرور يوم واحد فقط على نجاح الرئيس بوتين، ولو إلى حين، في كبح جماح عنصر الارتياب الإيراني المتمثل في المعادلة القطرية آنفة الذكر، وذلك في أعقاب وصوله إلى طهران في الزيارة الرسمية الأولى من نوعها لرئيس روسي منذ العام 2007.
وإذا كانت هذه الزيارة التي التقى خلالها بوتين مع المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي والرئيس الإيراني حسن روحاني قد أدّت إلى تخفيف حدّة الاحتقان بين الطرفين حول مجريات الأزمة السورية، لا سيما بعدما كان منسوب هذا الاحتقان قد وصل إلى الذروة على إيقاع بثّ المواد الإخبارية الهجومية على شاشتيْ قناة "روسيا اليوم" وقناة "العالم" التي لا تزال مؤرشَفة بالطبع لغاية يومنا الراهن، فإنّ منسوب التوتر في العلاقات ما بين روسيا من جهة، وتركيا المدعومة قطريا من جهة أخرى، ظلّ يرتفع باضطراد لغاية حلول اليوم الواقع في 28 أيار (مايو) 2016.
ولعلّ أبرز ما سُجل يومذاك هو أنّ الرئيس بوتين، وبينما كان يجلس على كرسي أباطرة بيزنطة لدى الاحتفال بمرور الألفية الأولى على وصول أول إرسالية أرثوذكسية روسية إلى جبل آثوس المقدس في اليونان، بادر إلى مخاطبة "الجيران" في تركيا برسالة مباشرة جاء فيها حرفيا: "إننا (في روسيا) لم نضع مشروع الدفق التركي (لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا) على الرفّ بعد".
كلامٌ، لم يكد وقعه يتردد على مسامع الرئيس رجب طيب أردوغان حتى باشر الجانبان الروسي والتركي في تشكيل اللجان المشتركة بينهما من أجل احتواء تداعيات مغامرة إسقاط قاذفة الـ"سوخوي 24" الروسية عند تخوم الحدود السورية – التركية، ومن ثمّ للشروع في بناء خطين لأنابيب نقل الغاز الطبيعي، تحت مياه البحر الأسود، من روسيا إلى تركيا إلى أوروبا.
ومع العلم مسبقاً أنّ الموقف الروسي فُسر في حينه على أنه يحمل في طياته تراجعاً عن الثوابت التي أسّست لركائز الحقبة البوتينية في الحكم منذ اليوم الأول من أيام القرن الحادي والعشرين، سواء على مقياس الحكمة أو على مقياس الحزم، ولكنّ الحقيقة الجلية تُحتّم على القارئين بين السطور هنا الاعتراف ببديهية مؤداها أنّ الإبحار الروسي في مضائق الأزمات الشرق أوسطية لم يكن ليُقدّر له أن يتكلّل بالنجاح لولا الارتكاز إلى مفاهيم التعاون مع "أهوَن الشرّيْن"، أي الإيراني والتركي، على قاعدة "نجّنا من الشرير"، في الحالة السورية المتعثرة.
وللتأكيد على متانة الثوابت الروسية، ينبغي التذكير بأنّ عاماً واحداً لم يكد يمرّ على تكريس مفاهيم تعاون موسكو مع "أهوَن الشرّين"، الإيراني والتركي، حتى جاءت الزيارة التاريخية التي قام بها العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز لموسكو في 4 تشرين الأول (أكتوبر) العام 2017 لتكرّس مفاهيم الالتقاء ما بين دولتين متحرّرتين من هواجس "أهوَن الشرّين" فوق المائدة الشرق أوسطية الشهية.
ولربما ليس من باب المبالغة القول؛ للتأكيد أيضاً، إنّ التفاهم السعودي – الروسي الذي تمّ التوصل إليه يومذاك حول تحديد مكامن التهديد لأمن منطقة الشرق الأوسط؛ إيرانياً وتركياً، وإلى حدّ ما أمريكياً، شكّل الأرضية الأكثر صلابة بالنسبة إلى روسيا لكي تبني فوقها دورها المحوري في منطقة الشرق الأوسط.
وهذا الكلام إنْ دلّ في المحصلة النهائية إلى شيء، فهو يدلّ إلى أنّ إدارة الرئيس فلاديمير بوتين باتت تعرف الآن، أكثر من أي وقت مضى، كيفية الإبحار في مضائق الأزمات ما بين ضفّة الأخيار وما بين ضفّة الأشرار، لا بل كيفية الاعتماد على الأخيار في مواجهة الأشرار، الأمر الذي لم تدركه غالبية مكوّنات الطبقة السياسية اللبنانية بعد.. والخير دائماً فيما تقدّم ذكره من وراء القصد.