جمال دملج
يجمع المتابعون لمسار العلاقات الروسية – الإسرائيلية على أنّ النتائج التي أسفر عنها اجتماع سوتشي الأخير بين فلاديمير بوتين ونفتالي بينيت لم تكن لتصل إلى درجة متقدمة من التفاهم المشترك بين الجانبين على ملفات عدة، أبرزها الإيراني والسوري، لولا فاعلية الجهود التي بذلها الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز في هذا المجال قبل ما يزيد عن العقدين من الزمان.
وربما ليس من باب المبالغة القول إنّ بداية الحكاية تعود إلى النصف الثاني من العام 2000، عندما استبق بيريز؛ بينما كان لا يزال يشغل حقيبة التعاون الإقليمي في الحكومة، موعد توجهه إلى قصر الكرملين لإتمام لقائه الأول مع بوتين بموقف استكشافي شهير أطلقه من مقر إقامته في "ناسيونال أوتيل" المطل على الساحة الحمراء في وسط موسكو وجاء فيه ما حرفيته: "إنّ صوت روسيا المعتدل، وغير المنحاز لطرف ضد طرف آخر، سيكون مسموعاً أكثر في المحافل الدولية".
كان بيريز يأمل يومذاك في محاولة التوصل إلى معرفة حقيقة ما يضمره الرئيس الروسي القادم إلى الحكم قبل عدة أشهر، متسلحاً بما تراكم في جعبته من ملفات بالغة الأهمية أثناء عمله السابق لدى أعتى جهاز استخباراتي في العالم؛ أي الكي جي بي، نظراً لأنّ الرؤية الإسرائيلية حول هذا الأمر كانت لا تزال مغلّفة بطبقات متراكمة من الضباب.
ولعل من بين أبرز مبررات الرغبة في الاستكشاف عند الجانب الإسرائيلي أنّ الرئيس بوتين، ومنذ فشل القمة الأولى التي جمعته في حزيران (يونيو) العام 2000 في موسكو مع نظيره الأمريكي بيل كلينتون، بادر إلى الإعلان؛ سواء على لسانه أم على لسان وزير خارجيته (وقتذاك) إيغور إيفانوف، عن أنّ روسيا عازمة على استعادة دورها كاملاً كراعية ثانية للعملية السلمية في الشرق الأوسط في إطار "اللجنة الرباعية" التي تضمها إلى جانب كل من الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وسرعان ما راح بوتين يقرن القول بالفعل، ولا سيما بعدما استقبل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في آب (أغسطس) من العام ذاته، فاتحاً بذلك الأبواب الروسية أمام توافد عدد من المسؤولين الرسميين العرب، ومن بينهم الرئيس اليمني علي عبد الله صالح ورئيس مجلس الوزراء اللبناني رفيق الحريري ووزير الدفاع السوري مصطفى طلاس ووزيرا خارجية العراق طارق عزيز وليبيا عبد الرحمن شلقم، فضلاً عن عدد آخر من المسؤولين غير الرسميين، ومن بينهم الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين جورج حبش والأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين نايف حواتمة.
في المقابل، بقيت الأبواب الروسية مشرعة أيضاً لاستقبال المسؤولين الرسميين الإسرائيليين، ومن بينهم الرئيس موشيه كاتساف ورئيسا الحكومة أرييل شارون وإيهود أولمرت ووزير الدفاع إيهود باراك، فضلاً عن أنّ بنيامين نتنياهو ضرب لاحقاً الرقم القياسي في عدد زياراته لروسيا خلال المرحلة الثانية من توليه رئاسة مجلس الوزراء (2009-2021)، ولا سيما أنّ هذه الزيارات كانت تتمّ على أساس القناعة القائلة بأنّ "العلاقات الوطيدة بين موسكو وتل أبيب مفيدة للأمن القومي الإسرائيلي"، وفقاً لما صرح به نتنياهو نفسه في أكثر من مناسبة.
وعلى الرغم من أنّ وتيرة العلاقات الثنانية، سواء الروسية – العربية أم الروسية – الإسرائيلية، خضعت في العديد من المناسبات للكثير من الكر والفر، ولكن ما بقي ثابتاً في الموازاة هو أنّ أصداء ما جاء على لسان شمعون بيريز قبل أكثر من 21 عاماً عندما قال "إنّ صوت روسيا المعتدل، وغير المنحاز لطرف ضد طرف آخر، سيكون مسموعاً أكثر في المحافل الدولية"، ما زالت تتردد بين أروقة قصر الكرملين لغاية يومنا الراهن.
وللتأكيد على ذلك، مثلاً، فإنّ الرئيس بوتين الذي زار إسرائيل في العام 2005 لم يجتمع مع رئيس الوزراء (وقتذاك) أرييل شارون وحسب، بل أيضاً مع معلّمته في المرحلة الثانوية، الألمانية اليهودية المهاجرة ميناه يوديتشكاه برينلر، واشترى لها شقة في تل أبيب.
كما أنه عندما دعا بيريز في العام 2012 إلى موسكو للمشاركة في حفل تكريس المتحف اليهودي ومركز التسامح، وبادره بالقول: "لن ننسى أبداً التضحيات التي قدمها الشعب اليهودي في الحرب ضد النازية، ولن ننسى المحرقة أبداً"، فإنّ كلامه تزامن مع استمرار الثوابت التي يقوم عليها الموقف الرسمي الروسي بالنسبة إلى تسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي بموجب القرارات الدولية الصادرة بهذا الشأن على أساس حل الدولتين.
من هنا، يصبح في الإمكان تفهّم حقيقة مؤداها أنّ الأجواء الإيجابية التي خيّمت على لقاء سوتشي الأخير بين بوتين وبينيت في 22 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت لم تأتِ من فراغ بقدر ما تبلورت عن مسار سابق تمّ رسم محطاته بالتدرّج، وبعناية فائقة، على مدى سنوات العقدين الماضيين.
ووفقاً لمصادر روسية واسعة الاطلاع، فإنّ ما كان لافتاً هذه المرة تمثل في اتفاق الرجلين على ثلاث خطوات جديرة بالاهتمام، الأولى- عدم المزايدة بالنسبة إلى موضوع مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد على رأس السلطة في بلاده، وثانيها- الاستمرار في تحييد القوات الروسية عن مجال الاستهداف في الغارات الإسرائيلية على سوريا، وثالثها- ضمان انسحاب الفصائل الإيرانية والجماعات المتحالفة معها إلى مسافة لا تقل عن 50 كيلومتراً من مرتفعات الجولان... وهذا يعني في إطار ما يعنيه أنّ "الستاتيكو" القديم والمتجدّد في الحالة السورية الراهنة سيبقى ساري المفعول حتى إشعار آخر.