logo
اتجاهات

لبنان.. وشواهد التاريخ الأقدم بكثير من أحداث الطيونة الأخيرة

لبنان.. وشواهد التاريخ الأقدم بكثير من أحداث الطيونة الأخيرة
28 أكتوبر 2021، 9:03 ص

جمال دملج

لم يكد يدخل اللبنانيون في طور جديد من مراحل حبس الأنفاس الأكثر خطورة في تاريخهم الحديث، منذ اللحظة الأولى التي شاع فيها خبر الإعلان عن استدعاء رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع إلى فرع التحقيق التابع لمخابرات الجيش في وزارة الدفاع من أجل الاستماع إلى إفادته حول قضية أحداث الطيونة الأخيرة في بيروت، حتى كثرت في المقابل التقديرات والتوقعات المتعلقة بالسيناريوهات المستقبلية المرتقبة في البلد.

أسباب ذلك كانت منطقية ومبرّرة، ولا سيما بعدما اتضح مسبقا للعيان أن قرار الاستدعاء حمل في بعض تجلياته نكهة طبخة سياسية - كيدية تمّ تحضيرها في الأصل لحساب حزب الله على حساب حزب القوات اللبنانية؛ نظرا لتصاعد حدة التراشق الإعلامي المتبادل بينهما على شاشات التلفزة بشكل قياسي خلال الأسابيع القليلة الماضية.

وعلى الرغم من أن كافة التقديرات والتوقعات أجمعت في مجملها على أن جعجع سيتخلّف عن الحضور إلى مقر وزارة الدفاع في اليرزة، وهذا ما حدث بالفعل في الموعد المحدّد للاستماع إليه، أمس الأربعاء، ولكن ذلك لم يسفر عن "تهدئة الخواطر" بشكل واقعي وملموس، ولا سيما أن الاحتقان وحده ما زال يشكل إبرة البوصلة المتاحة في الوقت الحالي لتحديد وجهة المسار نحو المستقبل المجهول لوطن اعتاد أبناؤه على العيش، منذ الأزل، عند تخوم عتمة الغموض المجبولة بنذائر الخوف من الآتي الأعظم.

الساحات المفتوحة

وللاستبيان أكثر في هذا المجال، يمكن القول بكل أمانة إن لبنان الممتدّ على مساحة الـ10452 كيلومترا مربعا فوق خارطة منطقة الشرق الأوسط، بقي عاجزا منذ إعلان الجنرال الفرنسي هنري غورو عن تأسيسه في شهر أيلول (سبتمبر) العام 1920 ولغاية يومنا الراهن، عن الارتقاء من منزلة الكيان إلى مرتبة الوطن.

وللأمانة أيضا، فإنّ اللبنانيين، بغالبيتهم الساحقة، فشلوا طيلة السنوات الأخيرة الماضية في الارتقاء بأنفسهم من منزلة الرعايا في الطوائف الدينية المختلفة داخل بلدهم إلى منزلة المواطنين العاديين المتحدين في دولة عصرية واحدة وموحدة، ولا سيما بعدما درجت العادة على أن يروّجوا في أدبياتهم لثقافة "العيش المشترك" التي تصنّفهم في خانة المختلفين عن بعضهم البعض، عوضا عن الترويج لثقافة "العيش معا" التي تضمن حقوق المواطنة بالتساوي لكافة اللبنانيين.

ما حدث في الواقع هو أن هذه المساحة الجغرافية اللبنانية راحت تتحول بالتدرج؛ سواء خلال السنوات التي سبقت تاريخ الاستقلال أم في أعقاب ولادة الجمهورية اللبنانية في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1943، إلى ما يشبه الساحات المفتوحة لمن درجت العادة على وصفهم بـ"مخالب القطط وملاقط النار" المتوفرة دائما لخدمة مشاريع القوى الإقليمية والدولية، في الداخل والخارج على حدّ سواء.

شواهد التاريخ

ولعل من بين أبرز الأمثلة على ذلك هو أن الرئيس اللبناني الثالث في عهد الانتداب الفرنسي إميل إدة كان قد عرض في العام 1945 على رئيس المنظمة الصهيونية حاييم وايزمان أن يصار إلى إدخال مدينتيْ صور وصيدا اللبنانيتين، في إطار المساحة الجغرافية التي تشكلت فوقها دولة إسرائيل بعد ثلاثة أعوام من ذلك التاريخ، ولكن وايزمان رفض العرض قائلا للرئيس إدة ما حرفيته: "شكرا لكم، ولكننا لا نقبل الهدايا المفخخة".

في السياق نفسه، فإنّ عبدالحميد كرامي، رئيس الحكومة اللبنانية الثالثة (1945) خلال مرحلة ما بعد الاستقلال عن فرنسا، غالبا ما كان يعبّر أمام كلٍّ من مصطفى النحاس باشا في مصر والرئيس شكري القوتلي في سوريا عن معارضته لانضمام أهل السُنة اللبنانيين إلى دولة لبنان الكبير، شأنه في ذلك شأن نجله رشيد كرامي الذي طالب أثناء لقاء جمعه مع الرئيس جمال عبدالناصر العام 1959 بضمّ لبنان إلى "الجمهورية العربية المتحدة" بين مصر وسوريا، وكذلك شأن رئيس الوزراء اللبناني الحالي نجيب ميقاتي الذي ذكّر في مقابلة تلفزيونية أُجريت معه في 28 كانون الثاني (يناير) من العام الحالي، بأنّ "الطرابلسيين رفضوا الانضمام إلى دولة لبنان الكبير".

التنافس الكيدي

وللتذكير هنا، فإنّ التنافس الكيدي ما بين مؤيدي "مصر الناصرية" وما بين مؤيدي "حلف بغداد" في عهد الرئيس اللبناني الراحل كميل شمعون هو الذي أفسح المجال أمام قوات مشاة البحرية الأمريكية (المارينز) للتدخّل عسكريا في لبنان، للمرة الأولى في تاريخها، من أجل إخماد ما عُرف في حينه بـ"ثورة 1958".

وللتذكير أيضا، فإنّ لبنان بات يُعرف منذ ذلك الحين بـ"سويسرا الشرق الأوسط"، تماما مثلما أضحت عاصمته بيروت تُعرف بـ"باريس الشرق الأوسط"؛ الأمر الذي بشّر بولادة مرحلة يعمّ فيها الخير على كافة اللبنانيين.

ولكن الرياح التي جرت لاحقا بعكس ما تشتهيه السفن؛ بدءا من هزيمة الجيش المصري في حرب العام 1967 أمام الجيش الإسرائيلي، مرورا بـ"مجازر أيلول الأسود" بحق الفلسطينيين في الأردن العام 1970، وانتهاء بانتقال قيادات منظمة التحرير الفلسطينية إلى بيروت واندلاع الحرب الأهلية العام 1975، سرعان ما راحت تُظهر تباعا أنّ الجسم اللبناني بأكمله بات مهددا بعوارض الإصابة بأمراض الانقسام الكيدي المزمن والمقيت.

وإذا كان لهذا الكلام من معنى في الحالة اللبنانية الراهنة، فإنّ المغزى من وراء المعنى يتمثل في وجوب التوقف عند بديهية مؤداها أنّ ما حدث في الطيونة مؤخرا، ليس أكثر أو أقل من نتيجة حتمية لهذا الانقسام الكيدي القديم والمتجدّد، وأنّ قيام القاضي فادي عقيقي بختم التحقيق في أعقاب تخلّف رئيس حزب القوات اللبنانية عن الحضور إلى اليرزة، الأربعاء، من دون أن يطلب اتخاذ أيّ خطوة أخرى، لا يعني بالضرورة أنّ منسوب الاحتقان في الشارع قد تراجع نهائيا بشكل ملموس... وهنا يكمن البيت في القصيد!

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة © 2024 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC