في الوقت الذي يتزايد فيه اضطراب المشهد الجيوسياسي في المحيطين الهندي والهادئ، أعلنت أستراليا وإندونيسيا عن اتفاقية أمنية جديدة تُعدّ خطوة استراتيجية متقدمة في إعادة رسم خريطة التحالفات داخل المنطقة.
الاتفاق الذي وُقّع في سيدني بين رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي، والرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو، يتجاوز رمزيته الثنائية ليحمل أبعادًا تتصل بتوازن القوى في آسيا، وبتحوّل النظرة إلى الأمن الجماعي من مفهوم الحماية إلى مفهوم الشراكة الوقائية.
وتأتي المعاهدة الجديدة في سياق بحث الدول المتوسطة عن أدوات لحماية مصالحها وسط احتدام الصراع بين واشنطن وبكين.
أستراليا التي انخرطت منذ سنوات في تحالفات دفاعية غربية مثل "أوكوس" و"كواد"، تسعى اليوم إلى توسيع هامش استقلالها الاستراتيجي عبر بناء روابط أمنية مع دول آسيوية مجاورة، انطلاقاً من اعتبارها لاعباً إقليمياً قادراً على التفاوض بين مراكز القوة.
أما إندونيسيا، صاحبة الموقع الجغرافي الحرج عند تقاطع طرق التجارة البحرية، فترى في هذه الاتفاقية ضمانة مضاعفة لأمنها القومي، في ظل احتدام التنافس في بحر الصين الجنوبي، وتنامي التهديدات غير التقليدية مثل القرصنة والتهريب والهجمات السيبرانية.
وقالت مصادر دبلوماسية أسترالية، لـ"إرم نيوز"، إن الاتفاق الموقع مع إندونيسيا يُعبّر عن مستوى جديد من الالتزام العملي المشترك بين كانبيرا وجاكرتا.
وأضافت "لقد اتفقنا على أن التشاور الدائم - على مستوى الزعيم والوزراء - يشكل آلية وحصانة استراتيجية في زمن تتزايد فيه التهديدات غير التقليدية".
وأوضحت المصادر أن الجانب الأسترالي لا يرى في هذا الاتفاق بندًا لتلقّي الدعم العسكري عند أول إشارة تهديد، لكنه إطارٌ للفعل المشترك والدعم المتبادل، إذ لكل طرف الحرية في الاختيار بين التحرك بمفرده أو بالتنسيق مع الآخر، بحسب كل حالة وظرف.
وأكدت المصادر أن التنفيذ الفعلي للمعاهدة سيتم عبر خطوات لاحقة واضحة، من خلال لجنة تنفيذية مشتركة، وتبادل للمعلومات الاستخباراتية، والتمارين المشتركة، وهي عمليات ستبدأ فوراً بعد إقرار الإجراءات التشريعية في كلا البلدين.
إن من أبرز ما دار في الكواليس خلال اليومين الماضيين، يتمحور حول طلب الجانب الأسترالي من نظيره الإندونيسي تضمين بند "مراجعة دورية" يقضي بتقييم المشهد الأمني في المحيط الهندي‑الهادئ كل ستة أشهر تقريبًا، وهذا يُظهر بوضوح أن الاتفاق لا يُعنى برد فعل لحالة طارئة فحسب، وإنما يهتم بتأسيس عملية متابعة مستدامة لتطورات التهديدات.
وأفادت مصادر "إرم نيوز" بأن أستراليا أعطت إشارات داخلية واضحة بأن هدفها ليس تكوين علاقة "تحالف مباشر" بقدر ما هو توسيع شبكة شراكات دفاعية تُكمل قدراتها حالياً، وبهذا المعنى "يُنظر إلى إندونيسيا باعتبارها حلقة محورية ضمن خريطة أمنية أوسع"، وفق تعبير المصادر.
وأشارت إلى أن المداولات التي سبقت توقيع الاتفاقية شملت "خريطة طريق" تنفيذية أولية تتضمن تبادلاً للاستخبارات البحرية حول حركة السفن في مضيق ملقا (أحد أهم الممرات البحرية الاستراتيجية في العالم، إذ يربط ما بين المحيطين الهادئ والهندي، ويُعد الشريان الأساس لحركة التجارة والطاقة بين الشرق والغرب)، وتنسيقاً أوسع في مواجهة الهجمات السيبرانية العابرة للحدود، مبينةً أن هذه الخطوة تؤكد أن الاتفاق يشمل تهديدات ما بعد التقليدية، وليس مجرد هجوم عسكري مباشر.
وأخيراً، أوضحت المصادر أن الجانب الأسترالي يرى في هذه الاتفاقية "رسالة سياسية استراتيجية" موجهة إلى جميع الأطراف في المنطقة، مفادها أن أستراليا لا تكتفي بوضعية الدفاع عن حدودها فقط، لكنها تستعد لدور أوسع كفاعل أمني إقليمي.
وتنص المعاهدة الثنائية بين أستراليا وإندونيسيا، على التشاور في حال تعرض أي من البلدين لتهديد، ما يعني ضمنياً إرساء آلية دبلوماسية–أمنية شبيهة بالمادة الخامسة في حلف الناتو، ولكن بصيغة آسيوية مرنة لا تفرض الالتزام العسكري المباشر، وإنما تفتح المجال للتنسيق الاستخباراتي والدفاعي.
هذه الصيغة تشير إلى رغبة مشتركة في إنتاج نموذج أمني إقليمي مستقل عن الهيمنة الغربية، دون القطيعة معها، وهو ما يعكس روحاً جديدة في التفكير الآسيوي بالأمن، تقوم على مبدأ "الاعتماد المتبادل المقنن" وليس "التحالف الشامل".
وفي خلفية هذا التقارب، تقف الصين كعامل حاكم غير مُعلن، فبكين التي تراقب أي تكتل جديد في محيطها القريب، تدرك أن تنامي الشراكات الدفاعية الثنائية يشكل تحدياً لخططها في فرض واقع استراتيجي أحادي في بحر الصين الجنوبي.
في المقابل، تنظر واشنطن إلى هذا الاتفاق بإيجابية مشروطة؛ فهو يرسّخ ما تسميه "الشبكة الآسيوية للأمن المتكامل" التي تسعى لإقامتها عبر شركاء محليين لا يعتمدون فقط على الوجود الأمريكي المباشر.
كما تكشف الاتفاقية عن إعادة تعريف مفهوم الردع في آسيا، فبدلاً من بناء تحالفات مغلقة تثير استقطاباً، تميل دول مثل أستراليا وإندونيسيا إلى بناء منظومات ردع متدرجة، تتيح لها التعامل مع التهديدات العابرة للحدود دون أن تُورّط نفسها في حروب بالوكالة.
هذه المقاربة الواقعية تعكس إدراكاً متنامياً بأن القوة في القرن الحادي والعشرين تُقاس بقدرة الدول على إقامة شبكة مصالح متوازنة، قائمة على الثقة والتشاور أكثر من الاصطفاف.
ويعتبر الباحث الأسترالي المتخصص في استراتيجيات الأمن الإقليمي والتحالفات الدفاعية الآسيوية–الأوقيانية، جوناثان بليك، أن الاتفاق الأمني بين أستراليا وإندونيسيا لا يجب أن يُفهم على أنه تحوّل جذري في البنية الدفاعية الأسترالية، وإنما يأتي كتكثيف لمنهجية "توسيع الشراكات دون تغيير التحالفات".
وقال بليك، لـ"إرم نيوز"، إن "أستراليا لا تنسحب من عباءتها الغربية، لكنها تتعلم من أخطاء التموضع الأحادي، وتسعى لبناء شبكة متعددة من العلاقات التي تتيح لها مساحة مناورة أوسع في منطقة شديدة التقلب".
وأضاف أن جاكرتا ليست مجرد طرف جغرافي قريب، إنما أيضاً قوة آسيوية ذات ثقل سياسي واقتصادي يُعتد به، وبالتالي فإن الشراكة معها تتيح لأستراليا مدّ نفوذها الإقليمي عبر قاعدة غير استفزازية.
وتابع بليك: "الرسالة التي تبعثها كانبيرا من خلال هذا الاتفاق تتعلق بشكل أساس في إدارة المخاطر وإدارة التوازنات أيضاً؛ فالشراكة مع إندونيسيا تمنح أستراليا القدرة على مراقبة بحر الصين الجنوبي من موقع تفاوضي، وليس من موقع صدامي".
وأكد أن أستراليا كانت حذرة في صياغة هذا الاتفاق، إذ لم تُدرج فيه أي التزام مباشر بالدفاع المشترك، لكنها التزمت بإجراء مشاورات عالية المستوى عند كل طارئ، وهي صيغة تتيح لها التفاعل من دون توريط، مضيفاً أن "المرونة كانت هي كلمة السر في الاتفاق. لقد حاولت أستراليا أن تقول: نحن مستعدون للتعاون، لكن بشروط تراعي واقعنا السياسي وتحالفاتنا الكبرى".
ولفت بليك إلى أن "هناك إدراكا أستراليا متزايدا بأن التهديدات لا تنتظر هندسة تحالف مثالي. ما يُبنى اليوم بين كانبيرا وجاكرتا هو شكل من الردع المتعدد المحاور، الذي لا يعتمد على قطب واحد".
ورأى أن الاتفاق يعكس تحوّلاً أعمق في ذهنية المؤسسة الدفاعية الأسترالية، حيث لم تعد مقاربة الأمن تقتصر على خطر عسكري مباشر، بل تشمل أيضاً سلاسل التوريد، البنية الرقمية، والممرات البحرية.
وأكد بليك أن "المعاهدة الجديدة تسير في اتجاه بناء مظلة حماية هجينة -دفاعية واقتصادية ولوجستية- وهو ما يعبّر عن قناعة استراتيجية بأن الأمن لا يتجزأ".
من جانبها، ترى أستاذة الجغرافيا السياسية للعلاقات البحرية والتكتلات الإقليمية في آسيا، مي لين تان، خلال حديث لـ"إرم نيوز"، أن الجانب الأهم في الاتفاق يكمن في موقعه الجغرافي ودلالته الإقليمية.
وقالت تان: "مضيق ملقا هو نقطة خنق استراتيجية لأي حركة بحرية بين المحيط الهندي والهادئ. حين تتقاطع مصالح أستراليا وإندونيسيا عند هذه البوابة، فإنهما تعيدان معاً ضبط الإيقاع الأمني في واحد من أكثر الممرات حساسية في العالم".
وأضافت أن الاتفاق يحمل دلالات ضمنية تجاه "آسيان"، إذ يطرح نموذجاً أمنياً ثنائياً خارج الأطر الجماعية التقليدية، مما قد يدفع دولاً أخرى في جنوب شرق آسيا إلى إعادة التفكير في آليات الأمن الإقليمي.
وتابعت تان: "لم تعد الدول تنتظر إجماع الرابطة قبل أن تتحرك. هناك إدراك جديد بأن التهديدات المعاصرة -من القرصنة إلى الهجمات السيبرانية- تتطلب ردوداً أكثر ديناميكية من تلك التي توفرها آسيان بصيغتها البيروقراطية البطيئة".
واعتبرت أن الاتفاق يخاطب الصين من دون أن يذكرها، فهو، على حد وصفها، "يبني حاجزاً ناعماً" حول بحر الصين الجنوبي، يمنح الدول المتوسطة حق المبادرة دون استفزاز، مشيرة إلى أن أستراليا وإندونيسيا لا تتبنيان خطاب المواجهة، لكنهما ترسمان عبر هذه الشراكة خريطة جديدة للثقة الدفاعية خارج منطق الاصطفاف.
ولفتت تان إلى أن الاتفاق الأمني الجديد بين أستراليا وإندونيسيا يأتي كنقلة في مفهوم السيادة الدفاعية داخل دول جنوب شرق آسيا.
وقالت حول ذلك: "إندونيسيا التي طالما تبنّت سياسة الحياد، بدأت الآن تعيد تعريف حيادها، كفعل واعٍ ومنظّم يبني العلاقات دون الانزلاق إلى المحاور".
وأشارت إلى أن الاتفاق يُقرأ في سنغافورة والفلبين باعتباره إعلاناً غير مباشر عن بروز محور أمني "متعدد الصيغ" لا يتقيد بنمط التكتل المغلق، وإنما يُبنى على منطق القابلية للتكيّف مع كل دولة حسب احتياجاتها، مضيفة أن "الرسالة الأساسية هنا هي: يمكن للدول المتوسطة أن تُنتج أمنها دون وصاية".
وشددت تان على أن الاتفاق يتضمن أبعاداً تكنولوجية لا تُذكر غالباً في البيانات العلنية، خصوصاً في ما يتعلق بالتعاون في الأمن السيبراني ومراقبة البنية الرقمية للبنى التحتية البحرية.
وتابعت: "في الوقت الذي تتحوّل فيه الكابلات البحرية وأنظمة المراقبة إلى نقاط ضعف استراتيجية، فإن أستراليا وإندونيسيا تبدآن تحصين مياههما ليس فقط بالسفن، وإنما بالشبكات والتقنيات".