لم يكن قرار وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" منع أوكرانيا من استخدام صواريخ "أتاكمز" بعيدة المدى لضرب العمق الروسي خطوة عابرة في سياق الدعم العسكري الغربي لكييف، بل يعكس – وفقاً لمراقبين – حسابات استراتيجية معقّدة تتداخل فيها اعتبارات الردع والدبلوماسية، إلى جانب الحرص على تفادي انزلاق الصراع إلى مواجهة غير محسوبة مع موسكو.
فالولايات المتحدة، التي تبنت منذ بداية الحرب الأوكرانية سياسة الدعم المفتوح لكييف، باتت اليوم تميل إلى وضع حدود واضحة لهذا الدعم، إذ إن السماح لأوكرانيا باستهداف الأراضي الروسية يعني عمليًّا إدخال واشنطن في صراع مباشر مع موسكو، وهو سيناريو تسعى الإدارة الأمريكية إلى تجنّبه في هذه المرحلة الدقيقة.
وتُقرأ هذه الخطوة الأمريكية من زاويتين مترابطتين: أولاهما أنها بمثابة رسالة تهدئة موجهة إلى موسكو، مفادها أن واشنطن لا ترغب في تصعيد الحرب إلى مستويات استراتيجية خطيرة. وثانيتهما أنها محاولة لإعادة صياغة موقع أوكرانيا على طاولة المفاوضات، بما يتماشى مع المتغيرات الجيوسياسية الراهنة.
ويرى مراقبون أن قرار البنتاغون لا يمكن اختزاله باعتباره مجرد إجراء عسكري، بل يمثل مؤشراً على تحوّل أوسع في الرؤية الأمريكية تجاه الأزمة الأوكرانية، إذ تنتقل السياسة الأمريكية من نهج "الدعم غير المشروط" إلى استراتيجية "الدعم المقيّد"، التي توازن بين استمرار الدعم العسكري ومنع انفلات الصراع إلى مواجهات أكبر.
ويؤكد خبراء أن الموقف الأمريكي الأخير ينطوي على رغبة واضحة في تهدئة الأوضاع مع موسكو، من خلال منع أوكرانيا من استخدام الصواريخ بعيدة المدى ضد العمق الروسي، باعتبار ذلك بمثابة رسالة طمأنة للكرملين، وفرصة محتملة لفتح قنوات تواصل جديدة، خاصة في أعقاب اللقاء الأخير الذي جمع الرئيسين الأمريكي والروسي.
وفي هذا السياق، قال الدكتور توفيق حميد، المحلل السياسي والخبير في الشؤون الأمريكية، إن قراءته للمشهد الراهن تشير إلى أن هذا الموقف الأمريكي لم يأتِ من فراغ، بل تحكمه جملة من الأهداف المتداخلة، في مقدمتها السعي إلى إظهار قدر من الانفتاح تجاه موسكو بعد فترة طويلة من التوتر والجمود، وهو ما برز بوضوح عقب القمة الأخيرة بين ترامب وبوتين.
وأوضح حميد، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن هذا التوجّه الأمريكي قد يسهم في تخفيف حدة التوتر وتهيئة الأجواء لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين واشنطن وموسكو. وشدّد على أن الولايات المتحدة لن تسمح لأوكرانيا بشن هجمات على الداخل الروسي، في إشارة واضحة لطمأنة الجانب الروسي في هذه المرحلة.
وأشار إلى أن توقيت هذا القرار لا يحتمل مزيدًا من التصعيد أو الصدام المباشر بين القوتين العظميين، ولا سيما بعد اللقاء الرئاسي الأخير، مؤكداً أن رفض تزويد كييف بصواريخ بعيدة المدى يُعد خطوة نحو بناء علاقة أكثر توازناً وإيجابية بين الجانبين.
واعتبر حميد أن حرمان كييف من هذه الصواريخ من شأنه أن يُرجّح كفة روسيا عسكريًّا، في ظل استمرار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في رفض المقترحات المطروحة، وهو ما يضعف قدرة أوكرانيا على تنفيذ ضربات مؤثرة داخل العمق الروسي.
وأضاف أن هذا الموقف الأمريكي يمكن فهمه على مستويين: الأول كرسالة تهدئة وتحسين للعلاقات مع روسيا، والثاني كوسيلة ضغط مباشرة على زيلينسكي لدفعه نحو القبول بترتيبات تم التفاهم حولها – على الأرجح – خلال القمة الأخيرة بين الزعيمين.
ونوّه إلى أن زيلينسكي يدرك تمامًا أن الدول الأوروبية لن تقدم له صواريخ تُستخدم لضرب العمق الروسي، خشية الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع موسكو، وهي مواجهة لا تملك أوروبا المقومات السياسية والعسكرية للفوز بها.
واختتم حميد بالتأكيد على أن آمال أوكرانيا كانت معلقة على موقف واشنطن، لكن القرار الأمريكي برفض تزويد كييف بالصواريخ بعيدة المدى يحمل رسالة واضحة بأن هذه الأسلحة لن تأتي – لا من الولايات المتحدة ولا من أوروبا – لتفادي أي انزلاق نحو صدام مباشر مع روسيا.
من جانبه، أكّد الدكتور رامي القليوبي، الأستاذ بكلية الاستشراق في المدرسة العليا للاقتصاد بموسكو، أن مسألة استخدام صواريخ "أتاكمز" لضرب العمق الروسي تعود إلى قرار اتُّخذ في أيام الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة جو بايدن، في حين تتبنى الإدارة الحالية بقيادة الرئيس دونالد ترامب نهجًا مغايرًا، لا يميل إلى التصعيد العسكري مع موسكو.
وقال القليوبي، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، إن موسكو ردّت حينها باستخدام صاروخ "أورشنيك" الفرط صوتي، إلا أن جوهر القضية يتمثل في أن القرار الأمريكي الأخير يعكس بوضوح التحول في نهج الإدارة الجديدة تجاه الأزمة الأوكرانية.
وأضاف: "لا أرى أن القرار يرتبط ارتباطًا مباشرًا باستخدام السلاح النووي، فالعقيدة النووية الروسية التي تم تعديلها في نهاية العام الماضي، تقوم على مبدأ التصعيد التدريجي، وليس اللجوء الفوري إلى استخدام السلاح النووي".
وأشار إلى أن الأسلحة النووية تُستخدم في إطار الردع الاستراتيجي، ولا تُعد أداة ميدانية تُستخدم في نزاعات تكتيكية مثل الحرب في أوكرانيا، فالقوى الكبرى تعتبر السلاح النووي وسيلة لردع أي تهديد لمصالحها الحيوية، أكثر من كونه أداة لخوض المعارك.
واختتم القليوبي بالتأكيد على أن الموقف الأمريكي الأخير يُجسّد، قبل أي اعتبار آخر، الرؤية الجديدة التي تتبناها واشنطن في التعامل مع الأزمة الأوكرانية، وهي رؤية تستند إلى خفض التصعيد والانفتاح على مسار سياسي بديل، يضع حدًّا للحرب دون التورط في مواجهة مباشرة مع روسيا.