منذ عام 1995، شهدت النفقات العامة في فرنسا تحوّلاً واضحًا، فبينما انخفضت حصة الرواتب وشراء السلع والخدمات، صعدت التحويلات الاجتماعية لتصبح العنصر الأكثر نموًا في ميزانية الدولة.
وسلط الاقتصاديان فرانسوا لانغو (جامعة لو مان) وفابيان تريبيي (جامعة باريس دوفين) الضوء على 30 سنة من تطور النفقات العامة، موضحين كيف أثّرت هذه التحولات على موازنة الدولة الحالية ومستقبلها.
الاقتصاديان يقدمان تحليلا تاريخيا لنفقات الدولة يساعد على فهم كيفية تخصيص الأموال: هل ذهبت الرواتب للموظفين؟ أم لشراء السلع والخدمات؟ أم للتحويلات الاجتماعية؟ وما تأثير ذلك على إنتاج الخدمات العامة في مجالات التعليم والصحة والدفاع؟.
الإجابة على هذه الأسئلة ضرورية لتقدير أولوية الإنفاق المستقبلي، وتحديد التوازن بين النمو الاقتصادي وتقليص العجز وتقليل التفاوتات الاجتماعية.
نحو 30 مليار يورو من التوفير
مشروع قانون المالية لعام 2026 يخطط لتوفير نحو 30 مليار يورو، أي ما يعادل 1.03% من الناتج المحلي الإجمالي. هذا المبلغ يُوزع بين 16.7 مليار يورو تقليص نفقات و13.3 مليار زيادة في الضرائب. إلا أن العجز العام، المتوقع عند 5.6% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2025 (163.5 مليار يورو)، سيُقلّ بنسبة 18.35% فقط.
وبهدف تثبيت الدين العام، سيكون من الضروري زيادة جهود التوفير خلال السنوات القادمة بنحو 120 مليار يورو إضافية (4 نقاط من الناتج المحلي الإجمالي)، أي أربعة أضعاف ما يخطط له مشروع قانون المالية لعام 2026.
على مدار العقود الماضية، كانت النفقات العامة تمثل نحو 54% من الناتج المحلي الإجمالي في التسعينيات، وارتفعت إلى 57% في عشرينيات القرن الحالي، ما يعادل 87.6 مليار يورو سنويًا، أي أكثر من خمسة أضعاف المبلغ المخطط لتوفيره في 2026.
التحول نحو التحويلات الاجتماعية
كل بند من نفقات الدولة يشمل الرواتب، شراء السلع والخدمات، والتحويلات إلى السكان. بين عامي 1995 و2023، شهدت التحويلات الاجتماعية أكبر زيادة:
في 1995، كانت التحويلات تمثل 40.2% من النفقات (22.05 نقطة من الناتج المحلي الإجمالي)، بينما انخفضت الرواتب إلى 21.4% (-1.07 نقطة) وشراء السلع والخدمات إلى 34.5% (-0.15 نقطة).
بذلك، أصبح الإنفاق العام متركزًا أكثر على دعم السكان، فيما ظل الإنفاق على الرواتب والسلع محدودًا نسبيًا، رغم زيادة عدد موظفي الدولة بأكثر من 20%. بالمقابل، ارتفع التوظيف في القطاع الخاص بنسبة 27%، مما يعكس زيادة إنتاجية العمل في القطاع العام دون ارتفاع كبير في الرواتب، وتقليص الفجوة بين القطاعين العام والخاص من +11.71% عام 1996 إلى 5.5% عام 2023.
التعليم والدفاع تحت الضغط
بين عامي 1995 و2023، زادت النفقات العامة على معظم القطاعات بوتيرة أقل من نمو الناتج المحلي الإجمالي، خصوصًا التعليم والدفاع والخدمات العامة.
التعليم تراجع بمقدار 0.78 نقطة من الناتج المحلي الإجمالي، الدفاع بمقدار 0.68 نقطة، والخدمات العامة 2.14 نقطة.
انخفاض الإنفاق على التعليم مرتبط جزئيًا بتحويل جزء كبير من ميزانية التعليم إلى المعاشات التقاعدية للمعلمين، ما يقلص الموارد المباشرة للطلاب ويؤثر على جودة التعليم. أما تراجع ميزانية الدفاع فيبدو أقل استراتيجياً في ظل التحديات الجيوسياسية الحالية.
الصحة والحماية الاجتماعية في صدارة الزيادة
على الجهة المقابلة، شهدت الصحة والحماية الاجتماعية أعلى معدلات نمو: الصحة: +1.72 نقطة من الناتج المحلي الإجمالي، الحماية الاجتماعية: +1.92 نقطة، مما يمثل نحو 65% من زيادة النفقات العامة.
الارتفاع يعكس جزئيًا شيخوخة السكان، وجزئيًا زيادة التحويلات لكل مستفيد، بما في ذلك المعاشات التقاعدية. على سبيل المثال، ارتفع متوسط المعاش من 50% من الراتب المتوسط في التسعينيات إلى 52.3% في 2023، كما زادت تكلفة علاج أمراض القلب من 4.5 إلى 5.6 من الحد الأدنى للأجور.
تقليص النفقات المستقبلية وإعادة التوازن
تشير البيانات التاريخية إلى أن أي جهود لتقليص النفقات المستقبلية ستستهدف غالبًا الصحة والمعاشات، لأنهما شهدتا أكبر زيادة خلال العقود الماضية. وفي المقابل، سيكون من الضروري استثمار أكبر في التعليم والدفاع، مع إعادة النظر في رواتب موظفي القطاع العام لتحقيق توازن أفضل بين الإنتاجية والإنفاق.
مشروع قانون المالية لعام 2026 يضم بعض الإجراءات لتحقيق هذا التوازن، من خلال خفض نفقات الحماية الاجتماعية وخصوصًا المعاشات، وزيادة الميزانية الدفاعية، بينما لم يشمل التخفيض ميزانية التعليم.
الدروس المستفادة من تطور نفقات الدولة
التاريخ المالي يوضح أن التحويلات الاجتماعية كانت المحرك الرئيس لنمو النفقات العامة، وأن أي جهود مستقبلية يجب أن تراعي أثرها على النمو الاقتصادي والتوظيف. فعلى سبيل المثال، خفض التحويلات المستندة إلى المكاسب السابقة مثل المعاشات قد يحفز النمو وييسر تثبيت الدين العام، على عكس زيادة الضرائب التي قد تقلل النشاط الاقتصادي.
في الختام، تطور نفقات الدولة الفرنسية يعكس أولويات المجتمع: تعزيز الحماية الاجتماعية والرعاية الصحية مع ضبط النفقات العامة، بينما تظل قطاعات مثل التعليم والدفاع بحاجة إلى إعادة استثمار لمواجهة تحديات المستقبل.