في تحول لافت بالخطاب الأمريكي، بدا الرئيس دونالد ترامب أقل التزامًا عمليًّا بوساطةٍ نشطة لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، رغم إعلانه في نيويورك أن أوكرانيا قادرة — بنحوٍ مثالي — على إجبار روسيا على الانسحاب خلال ثلاث سنوات ونصف بفضل الشجاعة والإبداع والأسلحة الغربية، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز".
ويكشف التحول في النبرة عن رغبة أعمق لدى البيت الأبيض في التراجع عن مسؤوليات مباشرة تجاه الصراع، أو على الأقل في إعادة تعريف دور الولايات المتحدة من الفاعل الممول والمحرك إلى الراصد الذي يطالب حلفاء أوروبا بتحمل الأعباء الأكبر، بحسب الصحيفة.
وأشارت إلى أن خطاب ترامب يتسم بالتقلب: فهو يعلن قدرة أوكرانيا على استعادة أراضيها، وفي الوقت ذاته يعزف عن تبنّي خطة محددة جديدة للضغط على موسكو أو إطلاق مبادرة تفاوضية واضحة.
وذكرت أن هذا التناقض يعبّر عنه مراقبون كمؤشر على أن موقف الإدارة أقل تحليلًا استراتيجيًّا وأكثر تأثّرًا بمتغيرات آنية وانشغالات داخلية؛ كما يصف مساعدوه السابقون مواقف ترامب الخارجية بأنها تقلبات مدفوعة بالغضب والشعور بالإهانة بقدر ما هي حسابات موضوعية.
ولفتت الصحيفة إلى أن ردود الفعل داخل واشنطن أظهرت انقسامًا بين لهجة خطابية داعمة لأوكرانيا وقرارات تنفيذية قد تُضعف الدعم الواقعي؛ ففي اليوم نفسه الذي عزز فيه ترامب تفاؤله حول قدرة كييف، كرر وزير الخارجية ماركو روبيو (المذكور أيضًا كمستشار للأمن القومي في نص التعليق) أن الحرب "لا يمكن أن تنتهي عسكريًّا"، وأنها ستنتهي على "طاولة المفاوضات".
هذا التباين يشير إلى عدم توافق واضح بين الخطاب الرئاسي والنهج المؤسسي داخل الإدارة.
ويعكس اللجوء إلى أدوات اقتصادية غير تقليدية مثل الرسوم الجمركية المقترحة على روسيا بدلاً من عقوبات تقليدية، مع شرط توقف أوروبا عن شراء الطاقة الروسية، محاولة إعادة توزيع العبء على حلفاء الولايات المتحدة بدلًا من تعزيز دور واشنطن المباشر.
كما أشار محللون إلى أن هذا المقترح قد لا يؤدي إلى تغيير جوهري، بل يعيد تشكيل الآليات دون معالجة العمق الاستراتيجي للصراع.
النخبة التحليلية الأمريكية لم تقف مكتوفة الأيدي؛ لكن وصف ريتشارد فونتين التحول بأنه "تحليلي لا سياسي"، أي تبدّل في اللغة وليس في الممارسة.
ويرى فونتين أن خطاب ترامب يتأرجح بين نظرتين متضادتين للأوضاع في أوكرانيا، مع ما ينجم عن ذلك من تقليل لدور الولايات المتحدة كرافعة مادية ودبلوماسية في الصراع.
في السياق، تؤكد لورا كوبر، المسؤولة السابقة في البنتاغون، أن بوتين يقيس دعم كييف بالمقدار المادي وليس بالخطاب؛ ومن ثم فإن استنزاف حصة الولايات المتحدة من الإسهام المادي يضعف قدرة الردع، ويجعل الأوروبيين وحدهم في مواجهة عبء الدعم العسكري.
وعلى مستوى الحزب الجمهوري، أثارت تصريحات ترامب حفيظة بعض الأصوات التقليدية المدافعة عن أوكرانيا: السيناتور ميتش ماكونيل رحّب بتصريحات ترامب الظاهرية، لكنه حذر من سياسات داخلية قد تقوّض هذا الدعم، مستدلاً على أن أفعال الإدارة (تقليصات محتملة في المساعدات والتدريب) قد تقوّض أهدافها المعلنة.
ويعكس تحذير ماكونيل قلقًا عمليًّا: ليس المهم ما يقال في المنابر، بقدر ما تُنفقه الإدارة وتفعله في الميدان.
ومن الجانب الأوكراني، استقبل فولوديمير زيلينسكي التحوّل الخطابي بتفاؤل حذر، واعتبره "تغييرًا لقواعد اللعبة" بعد جهود دبلوماسية طويلة لإعادة واشنطن إلى مربع الدعم؛ لكن سرعان ما بدا أن التفاؤل هش، إذ تبين أن خطاب ترامب لم يصحبه التزامات مادية أو زمنية جديدة تكفي لردع روسيا على المدى الطويل.
قلّل تصريح الكرملين، عبر المتحدث دميتري بيسكوف، من خطاب ترامب ووصفه بأنه لا يتقاطع مع الواقع العسكري، مؤكّدًا أن روسيا ليست "نمرًا من ورق" بل "دبًّا" أقوى بكثير.
وختامًا، تبدو واشنطن في مفترق طرق: هل ستترجم التصريحات إلى دعم مادي ودبلوماسي يضمن لِكييف قدرة حقيقية على استعادة أراضيها، أم أن التحوّل الخطابي سيبقى غسلًا لليدين من مسؤولية طويلة ومكلفة؟ الإجابة تتوقف على ما سينفقه البيت الأبيض فعليًّا، وليس فقط على ما يُعلنه الرئيس.
بينما يبقى زيلينسكي في حاجة ملحة إلى المال والتكنولوجيا والاستخبارات والدعم العسكري، تتردد قدرة أوروبا على التعويض الكامل عن نفوذ الولايات المتحدة.
وفي غياب التزام أمريكي ملموس، يظل السؤال حول من سيسد الفجوة بين الكلام والواقع هو السؤال الفاصل لمصير الحرب في أوكرانيا.