في الوقت الذي انشغل فيه العالم بتقلبات السياسة الدولية وأزمات الطاقة، كانت موسكو تُعيد رسم قواعد الاشتباك على جبهتين متوازيتين، السيطرة الميدانية والاقتصاد.
وخلال شهري نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وديسمبر/كانون الأول الجاري، بدا واضحًا أن روسيا لم تعد تتعامل مع الحرب في أوكرانيا بوصفها معركة جغرافيا فقط، بل كاختبار طويل المدى لقوة الأعصاب، وقدرة الدول على التحمل تحت ضغط الاستنزاف المتراكم.
ومع تراجع بعض الجبهات واشتعال الأخرى، أخذت ملامح "استراتيجية الضغط الطويل" تتجسد كخيار روسي محسوب، يتكئ على الصبر العسكري والانضباط الاقتصادي، ويعتمد على معادلة تُضعف الخصم، بقدر ما تُنهك الحلفاء الداعمين له.
وخلال الفترة الماضية، كثف الدب الروسي هجماته في المحاور الشرقية والجنوبية، في محاولة لتحسين شروط السيطرة الميدانية دون الدخول في مغامرات عسكرية واسعة.
وكشفت التقارير الروسية الميدانية عن تقدم محدود في بعض مقاطع دونباس وبلدات بمحور دنيبرو بيتروفسك، وفي الوقت نفسه أكدت كييف أن المقاومة لا تزال على أشدها، وأن أي حديث عن "هدنة" بات مستبعدًا في المدى المنظور.
واعتمدت روسيا على مزيج من الهجمات بالطائرات المسيرة والضربات المدفعية المركزة، وعمليات التغلغل المحدودة، كخيار بديل عن الهجمات الكاسحة التي استنزفت موارد هائلة في مراحل سابقة من الحرب، وذلك وفقًا لبيانات وزارة الدفاع الروسية.
وعلى مستوى الجبهة الاقتصادية، لم تكن نهاية العام 2025 مريحة للكرملين، فقد أظهرت حسابات اقتصادية أن عائدات النفط والغاز الروسية انخفضت بنحو الثلث في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي مقارنة بالعام السابق، نتيجة تراجع الأسعار الدولية وتشديد العقوبات وقيود التصدير.
وساهمت أوكرانيا في تضييق الخناق أكثر عبر هجمات منظمة على منشآت الطاقة والموانئ الروسية، استهدفت البنية التحتية في البحر الأسود وداخل العمق الروسي.
ورفعت هذه الضربات تكاليف التأمين والشحن بشكل كبير، وأثرت على قدرة موسكو في الحفاظ على إيقاع صادراتها، ما جعل "حرب الموانئ" واحدة من أهم أدوات كييف لإضعاف القدرة الروسية على تمويل المجهود الحربي.
في المقابل، اتخذت الولايات المتحدة خلال نوفمبر/تشرين الثاني رزمة جديدة من القيود ضد شركات نفطية روسية كبرى، ما أدى إلى اضطرابات في سلاسل التعاملات التجارية وتوريد المواد الخام.

وردت موسكو بتعزيز تحالفاتها الاقتصادية مع الصين والهند، كجزء من إعادة توجيه الصادرات بعيدًا عن الأسواق الغربية.
وهذه التطورات جعلت موسكو أمام مفترق طرق، أولها رغبتها في الحفاظ على إيقاع العمليات العسكرية بدرجة تُبقيها في موقع القوة أثناء التفاوض، وفي الوقت نفسه تحاول امتصاص آثار العقوبات عبر تنويع الشركاء، والبحث عن منافذ تجارية جديدة.
ووفقًا للخبراء، فإن هناك 3 سيناريوهات مطروحة، أولها استمرار الاستنزاف، وهو السيناريو الأكثر ترجيحًا، حيث يواصل الطرفان سباق الصبر بلا تقدم استراتيجي حاسم، أو لجوء الكرملين إلى موجة هجمات أكثر عنفًا إذا رأى نافذة تكتيكية لتحقيق اختراق ميداني يغير الحسابات، أو استمرار تراجع عائدات الطاقة ما قد يدفع الحكومة إلى قرارات داخلية صعبة.
ويرى الخبراء أن الحرب بين موسكو وكييف تحولت إلى صراع استنزاف طويل يقوم على "الضغط الشامل"، وتبادل الضربات الاقتصادية والعسكرية.
ويشير الخبراء إلى أن روسيا اعتمدت نهج القضم البطيء للأراضي، وبناء "اقتصاد قلعة" قادر على الصمود، مقابل تحول أوكرانيا إلى استراتيجية "العقاب في العمق" لاستهداف شريان الطاقة الروسي، وتقويض قدرته على تمويل المجهود الحربي.
وبهذا الصدد، قال مدير مركز فيجن للدراسات الاستراتيجية في أوكرانيا، د. سعيد سلام، إن الحرب الروسية على أوكرانيا دخلت مع اقتراب عامها الرابع مرحلة "تحول هيكلي" عميق، جعلها حرب استنزاف استراتيجية تتشابك فيها الأبعاد العسكرية والاقتصادية والسياسية بصورة معقدة.
وكشف سلام، في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن موسكو انتقلت بعد فشل "الحرب الخاطفة" إلى نهج "الضغط الشامل" القائم على القضم البطيء للأراضي الأوكرانية والتدمير الممنهج للبنية التحتية، بهدف إنهاك الدولة، ومنعها من الصمود طويلًا.
وأضاف أن روسيا تبني ما وصفه بـ"اقتصاد قلعة"، عبر تعزيز الاكتفاء الذاتي وتوسيع التجارة مع الصين والهند لتحصين نفسها ضد العقوبات، وضمان استمرار المجهود الحربي لسنوات.
في المقابل، تحولت كييف من الدفاع السلبي إلى استراتيجية "الردع بالعقاب"، عبر ضربات دقيقة داخل العمق الروسي، تستهدف منشآت الطاقة ومصافي النفط لإضعاف "شريان الحياة" للاقتصاد الروسي، ورفع كلفة الحرب على المجتمع الروسي مباشرة.
وشدد سلام، على أن الضربات الأوكرانية المركزة أدت إلى تراجع كبير في قدرات التكرير الروسية، وتعطيل مسارات التصدير، وفرض خصومات واسعة، ما تسبب في انخفاض قياسي لعائدات البترودولار، التي تمثل العمود الفقري للموازنة العسكرية.
وأكد أن هذا التآكل يخلق عجزًا غير مخطط له في ميزانية عام 2026، ويضع الكرملين أمام خيارات قاسية بين خفض الإنفاق الاجتماعي، أو زيادة طباعة النقود، بما يدفع التضخم وأسعار الفائدة إلى مستويات تخنق الاستثمار المدني.
وأشار إلى أن ضعف الروبل وتراجع الإيرادات يهددان قدرة موسكو على تمويل عقود المجندين ومشتريات الصناعات العسكرية، ما يجعل استدامة البترودولار في عام 2026 مسألة "وجودية" لدولة الحرب الروسية.
وأوضح سلام أن طرفي الصراع باتا في سباق "الصبر الاستراتيجي"، أو ما يشبه لعبة "عض الأصابع"، حيث لم يعد الحسم في الميدان فقط، بل في قدرة الداخل على تحمل الضغوط المتصاعدة.
من جانبه، قال الخبير في الشؤون الروسية، د. محمود الأفندي، إن انهيار اتفاقية إسطنبول في أبريل/نيسان عام 2022 بعد موافقة كييف عليها قبل تدخل الغرب، جعل الحرب تنزلق إلى استنزاف طويل.
وأضاف الأفندي، في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن روسيا انسحبت تكتيكيًا من كييف وسومي بعدما أدركت ـ بحسب تقديره ـ أن المعركة ستكون طويلة، وأن عليها بناء جبهة عسكرية واقتصادية قادرة على الصمود أمام أوكرانيا والغرب معًا.
وأوضح أن موسكو تعتمد على إنهاك القدرات العسكرية والبشرية الأوكرانية، واستنزاف مخزونات السلاح الأوروبية "التي أصبحت شبه فارغة"، مشيرًا إلى أن روسيا تتجنب الهجمات الكاسحة لتقليل خسائرها، بينما يتكبد الطرف المدافع ـ أي الجيش الأوكراني ـ خسائر أكبر.
وأكد الأفندي أن روسيا تحقق تقدّمًا بطيئًا ومدروسًا لاختراق الجبهات وسحق القوة العسكرية الأوكرانية بشريًا وماديًا.
وأشار إلى أن الاقتصاد الأوكراني "شبه منهار"، وأن الدعم الغربي تراجع، فيما بدأت الولايات المتحدة إعادة صياغة أولوياتها تجاه أوروبا.
ولفت إلى أن موسكو ترى الأوكرانيين "شعبًا شقيقًا" رغم الحرب، لكن منطقها يقوم على أن "الحرب حرب، والسلام سلام".
وتطرق الأفندي إلى تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التي قال فيها إن أي حرب تُشن على روسيا ستكون "حربًا ساحقة تشمل المدنيين"، معتبرًا أن موسكو ترى نفسها قد نجحت في حرب الاستنزاف، وأن إعلان النصر بات مرتبطًا بتفكك الجيش الأوكراني.
وأكد الأفندي أن الجبهات الشرقية تميل لصالح الروس، وأن كييف تقترب من الانهيار العسكري، بينما ترفض موسكو أي هدنة لأنها تمنح أوكرانيا فرصة لإعادة التموضع، لهذا، فإن الحرب ستستمر حتى "سحق القدرات الأوكرانية"، أو انسحاب كييف من دونباس.