كشف المعهد الملكي للخدمات المتحدة، أن روسيا، بموروثها السوفيتي، تعتبر شبكة السكك الحديدية في منطقة آسيا الوسطى أداة تاريخية للبقاء الاقتصادي والسياسي، فضلاً عن كونها ممرًّا لتجاوز العقوبات الغربية.
رغم ذلك، أوضح المعهد في تقرير حديث أن الصين باتت تراهن على هذه الشبكات لتوسيع جسرها البري الأوراسي ضمن مبادرة الحزام والطريق، مستغلة خطوط السكك الحديدية لضمان مرور البضائع الصينية بسرعة وموثوقية، وربط السوق الصيني بالأسواق الأوروبية عبر قلب آسيا.
وفي آسيا الوسطى، تبدو المشاريع الجديدة، على السطح، مجرد توسعات للبنية التحتية، لكنها في العمق تعكس محاولات دولية لترسيخ النفوذ وتحديد اتجاه التجارة العابرة للقارات، ما يجعلها شرايين حيوية للصراعات الاقتصادية والسياسية بين الدول الصغيرة والقوى الكبرى.
لكن هذه التحركات لا تتعلق بالسيطرة على التجارة فحسب، بل تتقاطع مع الأمن القومي والسيادة المحلية؛ فالحكومات في دول مثل كازاخستان وأوزبكستان أصبحت أكثر إدراكًا لتأثير شبكات السكك الحديدية القديمة على اقتصاداتها وقدرتها على التحكم بوجهة صادراتها؛ ما دفعها لاستثمار مليارات الدولارات في تحديث المسارات، وتطوير السكك الكهربائية، وتطبيق تقنياتٍ رقمية لمراقبة القطارات وإدارة التحميل بشكلٍ ذكي.
وفي هذا السياق، تشكل المشاريع المشتركة مثل السكك الأفغانية–الأوزبكية التي تمتد حتى باكستان، فرصةً استراتيجية لآسيا الوسطى للوصول إلى موانئ بحر العرب، وتقليل اعتمادها على طرق النقل التي يسيطر عليها جيرانها الكبار. لكنها تحمل مخاطر كبيرة، إذ تجعل هذه الدول عرضة لتقلبات سياسية وأمنية، بما في ذلك ضغوط القوى العظمى التي تحاول فرض قواعدها في المنطقة.
ويرى الخبراء أن الغرب، من جانبه، يرى في السكك الحديدية أداةً لتوسيع تأثيره الاقتصادي، لكنه يتعامل بحذر، مدركًا أن أي تدخل مباشر قد يثير ردود فعل روسية أو صينية، ولذلك فإن الحل بالنسبة للدول الغربية يكمن في دعم تحديث الشبكات، ونقل الخبرات التقنية، وتعزيز قدرة حكومات آسيا الوسطى على إدارة ممراتها التجارية بشكل مستقل، بدلاً من محاولة بناء مسارات بديلة بالكامل.
وكشفت مصادر خاصة، تحدثت لـ"إرم نيوز"، أن مشروع الحلم الصيني الضخم "طريق الحرير" الذي يعزز نفوذ الصين في العالم، والذي أنفقت عليه بكين مليارات الدولارات، ويضمُّ حاليًّا أكثر من مائة دولة ويمر عبر منطقة أسيا الوسطى، ما هو إلَّا دليلٌ على أن بكين تعتبرها منطقةً مهمة جدًّا بالنسبة لها.
وذكرت الباحثة في الشؤون الصينية والآسيوية الدكتورة تمارا برّو، في حوارٍ خاص لـ"إرم نيوز"، أن منطقة آسيا الوسطى عدا أنها منطقة تحتوي على كمياتٍ كبيرة من النفط تحتاجها الصين، فإنها كذلك منطقة ربطٍ بين الشرق والغرب، وبين الصين والشرق الأوسط وصولًا إلى أوروبا وإفريقيا وأمريكا".
وبالتالي فإن "تعدُّد مشاريع البنية التحتية في هذه المنطقة، قد يُشكل منافسةً لطريق الحرير الصيني، خاصةً إذا تواجدت الولايات المتحدة الأمريكية في قلب عمليات هذه المشاريع، كما في حالة طريق "زنغزور" أو "طريق ترامب للسلام والازدهار الدوليين" الذي أُعلن عنه خلال إعلان السلام بن أذربيجان وأرمينيا مؤخرًا بوساطةٍ أمريكية"، على حد تعبيرها.
وأكّدت برّو على أن "مثل هذه المشروعات قد تشكِّل وبلا شك تهديدًا لطريق الحرير الصيني، غير أن الأخيرة وفي كلِّ الأحوال ستبذل جهودًا حثيثة لتقويض عملية إفشال مشروعها".
في قلب هذه المعركة، تتجلى المنافسة بين السيادة الوطنية والهيمنة الخارجية، حيث تتحول سكك الحديد إلى أكثر من مجرد مسار: إنها مقياس للقوة الاقتصادية، وأداة سياسية، ومرآة لطموحات الشعوب الصغيرة في قلب قارة تمتد من جبال "تيان شان" إلى سهول كازاخستان الشاسعة.