في مشهد بات يثير الكثير من التساؤلات داخل الولايات المتحدة، تزامنت جريمة قتل الناشط اليميني تشارلي كيرك في جامعة يوتا، مع إبعاد واحدة من أبرز الأسماء في مكتب التحقيقات الفيدرالي "إف.بي.آي" مهتاب سيد، التي وصفت مرارًا بأنها "المحققة الخارقة".
وسلطت صحيفة "ويست فرانس" الضوء على المحققة مهتاب، موضحة أنه "رغم أنها كانت تملك الخبرة والمهارة اللازمتين للتعامل مع مثل هذا الملف المعقد، فإنها لم تتح لها الفرصة، بعدما أُجبرت على التقاعد قبل أسابيع قليلة من وقوع الحادثة".
لم تدخل مهتاب سيد عالم التحقيقات الجنائية من أبوابه التقليدية، إذ وُلدت في باكستان، وانتقلت شابة إلى نيويورك حيث بدأت حياتها المهنية كمدقّقة حسابات في سلسلة مطاعم.
وكانت حياتها تميل إلى الاستقرار حتى جاء يوم 11 سبتمبر 2001، الهجوم الإرهابي الذي غيّر مجرى التاريخ الأمريكي والعالمي على حد سواء.
وبالنسبة إليها، كان الحدث صدمة شخصية ونداءً داخليًا للانخراط في الصفوف الأمامية لمحاربة الإرهاب. عندها، قررت أن تغيّر مسار حياتها جذريًا.
بعد سنوات من العمل الروتيني في الحسابات، انضمت إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي في عمر الخامسة والثلاثين، وهو عمر متأخر نسبيًا مقارنة بزملائها.
لكنها عوضت هذا التأخر بسرعة مذهلة. بفضل عزيمتها وذكائها وقدرتها الاستثنائية على قراءة المواقف، تخصصت سيد في مجال التفاوض في الأزمات، سواء تعلق الأمر باحتجاز رهائن أم بعمليات إرهابية معقدة.
ومع مرور الوقت، صارت اسمًا معروفًا داخل أروقة الـFBI، حيث نجحت في بناء سمعة صلبة كإحدى أفضل الكفاءات النسائية النادرة في الوكالة.
على مدى أكثر من عقدين، تولت سيد مناصب حساسة، وصولًا إلى إدارة مكتب الـFBI في سولت ليك سيتي، حيث كانت مسؤولة عن ولايات يوتاه وأيداهو ومونتانا. من هذا الموقع، قادت عمليات سريعة للتدخل في مواقف معقدة، سواء تعلق الأمر بتهديدات إرهابية أم نزاعات إجرامية واسعة.
وكانت تتميز بقدرتها على اتخاذ القرارات تحت الضغط، وبتوازنها النفسي الذي جعلها تفاوض مجرمين وإرهابيين على حد سواء دون أن تفقد سيطرتها.
في 10 سبتمبر، دوى خبر مقتل تشارلي كيرك، أحد أبرز وجوه اليمين المتطرف الأمريكي، برصاصة في رقبته في أثناء مشاركته في مناظرة علنية مع طلاب جامعة وادي يوتا. لم يكن الحدث عاديًا: فكيرك شخصية مثيرة للجدل، يملك قاعدة جماهيرية ضخمة، ويُعتبر رمزًا لتيار سياسي صاخب في الساحة الأمريكية.
الجريمة وقعت في قلب الولاية التي كانت تشكل القاعدة العملياتية لمهتاب سيد. لكن المفارقة الكبرى أن "المحققة الفائقة"، التي تمتلك كل الخبرة اللازمة للتعامل مع هكذا ملف، كانت قد أُبعدت عن المشهد عبر "تقاعد مبكر" فرض عليها قبل أسابيع فقط.
إبعاد سيد في ذلك التوقيت الدقيق فتح الباب أمام شائعات وأسئلة لا تنتهي. كيف يمكن أن تخسر الوكالة إحدى أبرز كفاءاتها في لحظة تتطلب أقصى درجات الجاهزية؟ وهل كان خروجها مرتبطًا بخلافات داخلية أم بقرار استراتيجي أوسع؟ البعض يرى أن الأمر لم يكن سوى تسريح إداري عادي بعد سنوات طويلة من الخدمة، لكن آخرين يقرأون فيه دلالة على صراع بين أجنحة داخل الجهاز الأمني.
اليوم، ورغم تقاعدها القسري، تبقى سيرة مهتاب سيد نموذجًا للمرأة التي كسرت الحواجز في مؤسسة يطغى عليها الحضور الذكوري. فقد استطاعت أن تحول مسارها المهني من المحاسبة إلى التحقيقات الجنائية، وأن تصل إلى موقع قيادي في واحدة من أكثر الوكالات الأمنية نفوذًا في العالم.
ويبدو أن غيابها عن ملف مقتل تشارلي كيرك، أكثر من أي شيء آخر، يسلط الضوء على حجم الفراغ الذي تركته داخل الـ"إف.بي.آي".
وقصة مهتاب سيد ليست مجرد بروفايل شخصي، بل هي مرآة تعكس توترات أعمق تعيشها الولايات المتحدة: صعود التطرف السياسي، وهشاشة الأمن الداخلي، وأيضًا التحديات التي تواجهها المؤسسات حين تهمّش أصحاب الخبرة في لحظات مصيرية.
وربما يكمن الدرس الأبرز في أن غياب الكفاءات عن مواقع القرار قد يكلّف ثمنًا باهظًا، لا يدفعه جهاز أمني فحسب، بل مجتمع كامل يقف على فوهة أزمات متلاحقة.