لم يعد خافيًا أن اجتماعات برلين الجارية هذه الأيام لا تُعقد بهدف البحث عن "سلام شامل" في أوكرانيا، ولكن بالحدود الدنيا تهدف لوضع صيغة عملية توقف الحرب عند حدودها الحالية. الفارق جوهري، وهو ما يفسر الحذر الشديد في التصريحات العلنية، مقابل وضوح أكبر في الكواليس الدبلوماسية الغربية.
وبحسب مصدر دبلوماسي أمريكي مطلع على العملية التفاوضية، فإن واشنطن دخلت هذه الجولة وهي مقتنعة بأن استمرار الحرب لم يعد يخدم أي هدف استراتيجي إضافي.
ويقول المصدر لـ"إرم نيوز": "نحن لا نبحث عن اتفاق مثالي، لكن الأهم التوصل لصيغة توقف النزيف وتمنع انهيار أوكرانيا كدولة. مسألة الأراضي لم تُحل، لكن الإصرار على حلها الآن يعني استمرار الحرب لسنوات أخرى".
هذا التقدير يفسر الضغط الأمريكي الواضح على كييف للدخول في نقاشات تفصيلية حول وقف إطلاق النار والضمانات الأمنية، حتى لو بقي ملف دونباس خارج أي تسوية مكتوبة.
تشير المعطيات المتداولة في برلين إلى تحوّل فعلي في المقاربة الأمريكية، فبعد سنوات من ربط الدعم الغربي باستعادة الأراضي، بات التركيز منصباً على حماية ما تبقى من الدولة الأوكرانية، ومنع تحوّلها إلى ساحة استنزاف مفتوحة.
المصدر الأمريكي يوضح أن السيناريو المطروح لا يتضمن أي التزام أوكراني رسمي بالتنازل عن دونباس، لكنه في الوقت ذاته لا يضع أي أفق زمني لاستعادتها. "هذا ليس اعترافاً روسياً ولا تنازلاً أوكرانياً"، يقول المصدر، "بل تجميد سياسي طويل الأمد نعرف جميعاً أنه قد يستمر سنوات".
هذه المقاربة تعكس واقعية سياسية باردة، لكنها تطرح تحديات داخلية خطيرة أمام الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي يجد نفسه مطالباً بتسويق وقف نار لا يُعيد الأرض ولا يُنهي الصراع نظرياً.
في المقابل، ينطلق الموقف الألماني من زاوية مختلفة قليلاً، تركز على كلفة الحرب على أوروبا نفسها. مصدر دبلوماسي ألماني أفاد حول ذلك لـ"إرم نيوز" بأن برلين ترى أن استمرار القتال سيكون أزمة أوروبية ممتدة.
وأضاف: "أوروبا دفعت ثمناً اقتصادياً وسياسياً هائلاً، ولا يمكن إبقاء هذا الملف مفتوحاً بلا أفق. وقف النار ليس حلاً نهائياً، لكنه يمنح الجميع وقتاً لالتقاط الأنفاس".
وتابع أن ألمانيا تدفع باتجاه ربط أي اتفاق ببرنامج إعادة إعمار واضح المعالم، يخضع لإشراف دولي صارم، لتفادي انهيار الاقتصاد الأوكراني وتحوله إلى عبء دائم على المانحين الأوروبيين.
على الضفة الأخرى، لا تُبدي موسكو أي استعداد لمناقشة مستقبل دونباس. الإصرار الروسي على بقاء الشرطة والحرس الوطني في المنطقة حتى بعد أي اتفاق يُنظر إليه في العواصم الغربية كرسالة واضحة، مفادها بأن ما تحقق ميدانياً لن يُعاد التفاوض عليه سياسياً.
تقديرات غربية ترى أن الكرملين لا يتعامل مع برلين كمفاوضات حقيقية حول الأرض، ولكن كآلية لتثبيت الواقع، وفتح الباب أمام رفع جزئي للعزلة السياسية والاقتصادية المفروضة عليه منذ بداية الحرب.
وقد تكون المعضلة الأعمق في هذه المرحلة لا تتعلق بموقف موسكو أو واشنطن، وإنما تلك المتعلقة بالداخل الأوكراني. فوقف إطلاق النار عند خطوط التماس الحالية قد يُوقف أو يُنهي القتال، لكنه يفتح نقاشاً قاسياً حول الثمن الذي دُفع دون مقابل جغرافي واضح.
مصادر دبلوماسية غربية تقرّ بأن زيلينسكي يواجه أصعب اختبار سياسي منذ بداية الحرب، والمتمثل بكيفية إقناع الأوكرانيين بأن وقف القتال هو الخيار الأقل كلفة، من دون أن يبدو ذلك تراجعاً عن الثوابت التي رُفعت طوال السنوات الماضية.
وتفيد المصادر الغربية بأن ما يتبلور في برلين لا يُنهي الحرب الأوكرانية بالمعنى القانوني أو السياسي، لكنه قد يضعها في حالة تجميد طويلة. الغرب يبدو مستعداً لذلك، وروسيا لا تعارضه، فيما تبقى أوكرانيا الحلقة الأكثر ضعفاً في معادلة توازنات لا تملك وحدها مفاتيحها.
المحلل الاستراتيجي الروسي، أندريه مالينين، قال خلال حديث لـ"إرم نيوز" إن ما يجري في برلين لا تنظر إليه موسكو كمفاوضات بالمعنى التقليدي، وإنما كمرحلة تنظيم سياسي لما استقر ميدانياً منذ فترة. من وجهة نظره، فإن روسيا لا تبحث عن اعتراف غربي صريح بدورها في دونباس، لأن هذا الاعتراف تحقق عملياً من خلال انتقال النقاش الدولي من مسألة استعادة الأراضي إلى مسألة إدارة خطوط السيطرة.
وأشار مالينين إلى أن الكرملين ينظر بارتياح حذر إلى الطرح الأمريكي الحالي، لأنه يضع سقفاً للصراع ويمنع تحوله إلى استنزاف طويل الأمد لروسيا نفسها. فموسكو، بحسب تحليله، لا تريد توسيع الحرب ولا تدويرها سياسياً إلى ما لا نهاية، لكنها في الوقت نفسه غير مستعدة للدخول في مساومات حول مناطق تعتبرها جزءاً من أمنها الاستراتيجي.
وأضاف أن الإصرار الروسي على البنية الأمنية في دونباس يمثل أداة ضبط لموسكو. فوجود الشرطة والحرس الوطني، كما يراها، يهدف إلى منع فراغ أمني قد يُستغل سياسياً أو عسكرياً لاحقاً. وفي هذا السياق، يعتبر أن تجميد الصراع قد يخدم موسكو أكثر من اتفاق سلام هش يُعاد خرقه بعد أشهر.
من جانبها اعتبرت الباحثة الأوكرانية أولينا كوفالينكو، المتخصصة في الشؤون الأمنية والعلاقات الدولية، أن أخطر ما في مسار برلين ما قد تخسره أوكرانيا سياسياً إذا لم يُدار وقف النار بحساسية عالية.
وأشارت خلال حديثها لـ"إرم نيوز" إلى أن الطرح الغربي الحالي يضع القيادة الأوكرانية أمام معضلة مركبة، لافتة إلى أن القبول بوقف القتال يعني عملياً الاعتراف بعجز الدولة عن استعادة أراضيها في المدى المنظور، لكن رفضه يعني استمرار حرب بات المجتمع الأوكراني منهكاً منها اقتصادياً ونفسياً.
وتلفت كوفالينكو إلى أن الرهان الحقيقي في المرحلة المقبلة ليس على الضمانات الأمنية الخارجية بحد ذاتها، وإنما على قدرة كييف على تحويل وقف النار إلى فرصة لإعادة بناء مؤسسات الدولة، وترميم الثقة الداخلية، ومنع تحوّل "التجميد" إلى حالة دائمة تُفرغ السيادة من مضمونها.
وتضيف أن أي اتفاق لا يُقنع الأوكرانيين بأنه مرحلة انتقالية قابلة للتعديل، سيبقى هشاً ومعرضاً للانفجار عند أول اختبار سياسي.