في سياقٍ تتزايد فيه أهمية الموارد الحيوية كمحركات للنفوذ الجيوسياسي، تواجه الهند معضلة مركّبة تعكس توازنا دقيقا بين ضرورات التنمية الصناعية ومقتضيات الاستقلال الاستراتيجي.
وكشفت مجلة " The Diplomat" أن المعادن النادرة، التي أصبحت اليوم بمثابة "النفط الجديد" في الاقتصاد العالمي، تحوّلت إلى أداة ضغط ومساومة بين القوى الكبرى.
ومن هذا المنطلق، لم يكن قرار الصين استئناف توريد مغناطيسات المعادن الأرضية النادرة إلى نيودلهي، مقابل التزام مكتوب بعدم إعادة تصديرها أو تحويل مسارها، مجرد اتفاق تجاري، بل رسالة سياسية واضحة تؤكد هيمنة بكين الجيو-اقتصادية على هذا القطاع الحساس، وتضع الهند أمام اختبار حقيقي في سعيها لبناء استقلال تكنولوجي وصناعي بعيدا عن القبضة الصينية.
تُسيطر الصين اليوم على نحو 90% من طاقة تكرير المعادن النادرة في العالم، وفقا لوكالة الطاقة الدولية؛ وهو ما يجعلها الممر الإجباري لأي دولة تسعى لتأمين احتياجاتها من هذه المواد.
وتدخل المغناطيسات القائمة على تلك المعادن في تصنيع كل شيء تقريبا: من المركبات الكهربائية وتوربينات الرياح إلى الرادارات وشبكات الاتصالات وأنظمة الدفاع؛ ومع اشتداد الطلب العالمي، يتحول نقص الإمدادات إلى كابوس اقتصادي وأمني في آنٍ واحد.
من وجهة نظر بكين، فإن بند "منع إعادة التصدير" لا يُعد مجرد إجراء احترازي، بل وسيلة لترسيخ موقعها كبوابة التجارة العالمية للمواد المغناطيسية.
أما من زاوية نيودلهي، فهو اختبار لحدود سيادتها الاقتصادية؛ إذ إن قبول هذا الشرط يُنقذ الصناعة مؤقتا لكنه يُكرّس اعتمادا طويل الأجل على الصين، وهو بالضبط ما تحاول الهند تجنبه منذ عقدٍ على الأقل.
أفغانستان ورقة استراتيجية
ردّ الهند على هذا الواقع المعقد هو ما يمكن وصفه بـ"التحوط عبر الزمن"، أي الموازنة بين السعي الفوري لتلبية احتياجات الصناعة وبناء بدائل استراتيجية طويلة الأجل.
وذكرت المجلة أن الهند، العضو في شراكة أمن المعادن (MSP) التي تقودها الولايات المتحدة، تحاول أن تُبقي قدميها في كلا المعسكرين: التعاون التجاري مع الصين لتفادي الشلل الصناعي، وفي الوقت نفسه، الاستثمار في مسارات بديلة تُقلل من التبعية.
تُعد أفغانستان أحد هذه المسارات الناشئة؛ فقد دعت كابول نيودلهي إلى الاستثمار في صناعاتها المعدنية، في خطوة تمنح الهند منفذا محتملا نحو احتياطات تُقدّر بأكثر من تريليون دولار من الثروات المعدنية.
ورغم أن هذه الإمكانات لا تزال بعيدة عن التحقق الفعلي، فإنها تُوفر ورقة سياسية مهمة تقلص نفوذ باكستان في العبور البري، وتفتح نافذة نحو تنويع الموارد خارج المحور الصيني.
لكن الواقع العملي أكثر قسوة؛ فالهند، رغم امتلاكها ممرا بحريا عبر ميناء تشابهار الإيراني المحمي باتفاقية تشغيل تمتد لعشر سنوات منذ مايو 2024، ستحتاج إلى سنوات طويلة قبل أن تُصبح قادرة على استيراد كميات مؤثرة من المعادن النادرة من أفغانستان.
ولفتت المجلة إلى أن غياب الضمانات الأمنية، وارتفاع تكاليف النقل والبنية التحتية، وضعف النظام المالي الأفغاني، كلها تحديات تُبطئ التنفيذ.
ومع ذلك، فإن القيمة الحقيقية للعرض الأفغاني تكمن في إشاراته السياسية لا في مردوده المادي الفوري؛ إذ يمنح الهند موقع تفاوض أقوى في مواجهة الصين، ويعزز قدرتها على إدارة علاقاتها التجارية بمرونةٍ محسوبة.
وذكرت المجلة أن الطريق إلى عام 2030 يحمل في طياته اختبارا لقدرات الهند ومخاطرها في آنٍ واحد؛ فبينما تمتلك نيودلهي كفاءةً مختبرية في مجالات الفصل الكيميائي وإعادة التدوير، فإنها تفتقر بعد إلى قاعدة صناعية قادرة على الإنتاج الواسع وضمان الجودة وإدارة النفايات.
وقد ناقشت الحكومة بالفعل إنشاء مخزون استراتيجي للمعادن النادرة، وأطلقت حوافز لتصنيع المغناطيسات محليا، إلى جانب شراء أصول في الخارج عبر اتحادات القطاع العام.
لكن هذه الخطوات تصطدم بحقائق السوق العالمية: فالمسارات البديلة في أستراليا وفيتنام وأفريقيا محدودة القدرة ومرتفعة التكلفة، بينما يبقى النفوذ الصيني في قلب العملية الإنتاجية.
لذلك، لا تتمثل المخاطرة بالنسبة للهند في "الاعتماد أو الاستقلال”، بل في كيفية توزيع المخاطر بين التبعية السياسية للصين، والتحديات الأمنية عبر أفغانستان، وتكاليف البدائل الغربية.
في هذا السياق، تبدو استراتيجية الهند الواقعية هي الدمج بين هذه المسارات الثلاثة: الاعتماد الجزئي على الصين لتأمين الإمدادات، الاستثمار طويل الأجل في أفغانستان كخيارٍ جيوسياسي، وتوسيع التعاون مع تحالفات الغرب لضمان الحماية التكنولوجية والمعيارية. فالقوة في عالم المعادن لم تعد تُقاس بعدد المناجم، بل بقدرة الدول على التحكم في المعايير والواجهات والبنى التحتية التي تربط المواد الخام بالصناعات المتقدمة.
وبحلول نهاية العقد، قد لا تُقاس القوة في آسيا بعدد الصواريخ أو حجم الناتج المحلي الإجمالي، بل بمن يملك المغناطيس الذي يُحركها.
كما باتت المعادن النادرة شريانا خفيا للتفوق الصناعي والعسكري، والهند، العالقة بين نفوذ الصين وإغراء أفغانستان، تخوض سباقا ضد الزمن لبناء استقلالها المغناطيسي قبل أن تُغلق النوافذ الجيوسياسية أمامها نهائيا.