بياقة قميص مفتوحة وميكروفون في يده، استدعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الكاتب المسرحي الفرنسي الشهير "موليير" في مدينة تشنغدو الصينية، أمس الجمعة، في محاولة لإحداث شرخ في سور الصين العظيم.
وأمام جمهور من طلبة جامعة سيتشوان، أوصى الرئيس الفرنسي بقراءة مسرحية "كاره البشر"، التي يرمز بطلها إلى "رفض الخضوع لقوانين الجماعة"، وذلك في المحطة الأخيرة من زيارته الرسمية.
رسالة ضمنية من التمرد وُجهت إلى شباب ثاني أقوى دولة في العالم، التي باتت أكثر إحكامًا من أي وقت مضى في ظل إعادة السيطرة التي يفرضها الأمين العام للحزب.
قبل ذلك بساعات قليلة، رافق الرئيس الصيني شي جين بينغ وزوجته بنغ ليوان الزوجين الرئاسيين الفرنسيين في زيارة خاصة إلى سد دوجيانغيان التاريخي، بالقرب من مدينة جنوب غرب البلاد، مروجين لنموذج "الانسجام" في "حوكمة الدولة".
هذه الجولة في إحدى المقاطعات تُعدّ علامة تقدير لفرنسا التي كانت من أوائل من اعترف بالنظام الشيوعي في عهد الجنرال ديغول، لكنها تجد اليوم صعوبة في ممارسة نفوذها أمام عملاق آسيوي ينهض من جديد ويقف نِدًّا للولايات المتحدة وإدارة دونالد ترامب، وتغرق منتجاته أوروبا، من سيارات BYD الكهربائية إلى منصة Shein.
على مدى 3 أيام، من بكين إلى سيتشوان، خاض ماكرون، بإرادة واضحة، معركة مبارزة ناعمة للحفاظ على صوت فرنسا وأوروبا، المهددتين بالتراجع بين الصين المتحررة وأمريكا التي ترفع شعار "أمريكا أولًا".
ويقول أحد أعضاء الوفد: "إن السير على الحافة يزداد ضيقًا"، فمن أوكرانيا إلى العجز التجاري، واجه ساكن الإليزيه قوة متحررة من القيود، يمثلها مضيف بالغ الحزم، ينظر إلى قارة أوروبية عجوز تتلاعب بها رياح إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية العالمية.
ودافع ماكرون عن "إعادة توازن كبرى" في العلاقات الصينية-الأوروبية، مضخِّمًا حجم الرهانات، ومحذرًا من خطر "تفكك" النظام العالمي، أمام جهاز ماركسي-لينيني مهووس بالاستقرار، بل وحتى من "أزمة مالية" محتملة.
وقال الرئيس الفرنسي أمام الطلبة: "نحن في لحظة انهيار غير مسبوقة. إن العالم الذي بُني بعد الحرب العالمية الثانية يتصدع. ننتقل من عالم متعدد الأطراف إلى عالم متعدد الأقطاب تقوده بضع قوى وتتبعه دول تابعة".
ومع مخاوف من أن تنزلق فرنسا، بلا رجعة، إلى الفئة الثانية، خاطب ماكرون الطلبة الصينيين محذرًا: "لا تستسلموا لصفارات الانقسام" في مواجهة المنطق الجديد لتكتلات القوى.
بعد شهر من لقاء شي مع ترامب في 30 أكتوبر في بوسان، كانت هذه الزيارة تهدف للحفاظ على صوت فرنسا وأوروبا أمام "المجموعة الثنائية"، قبل زيارة الرئيس الأمريكي للصين المقررة في أبريل المقبل. وهي تسبق زيارات رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر والمستشار الألماني فريدريش ميرتس، المتوقعة في بداية العام المقبل. وتشهد على قلق الأوروبيين من التقارب الصيني-الأمريكي.
وبينما تتكثف مفاوضات السلام حول أوكرانيا بمبادرة من إدارة ترامب، وجد الأوروبيون أنفسهم في كماشة بين واشنطن ومحور موسكو-بكين. ديناميكية أكدت إلحاح هذه الزيارة إلى بكين، التي تم تأكيدها في اللحظة الأخيرة.
وفي متاهة القاعة الكبرى للشعب الستالينية، ضغط ماكرون مرة أخرى على مضيفه للتأثير على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لصالح "وقف إطلاق النار"، مستغلًا "علاقته المميزة" مع سيد الكرملين، لدرجة أنه أثار استياء شي، الذي رفض أي "اتهام لا أساس له وتمييزي" من الأوروبيين الذين يشيرون بانتظام إلى الدعم الصيني للروس في الحرب.
تعتبر بكين، التي لم تُدن أبدًا الحرب على أوكرانيا، أنها تُظهر ضبط النفس بالاقتصار على دعم اقتصادي من خلال شراء النفط الروسي بكميات كبيرة وتصدير التكنولوجيا المزدوجة الاستخدام، بما في ذلك مكونات الطائرات المسيرة.
مع ذلك، تأمل باريس في أن نداءاتها المتكررة قد تمنع على الأقل تعميق الدعم الصيني لموسكو. وأصر ماكرون أمام الصحفيين، قائلًا: "رأيت إرادة من الرئيس شي للمساهمة في الاستقرار والسلام"، قبل إقلاعه إلى باريس.
ويراهن ماكرون على حاجة "مصنع العالم" الصيني للحفاظ على علاقاته مع الأسواق الكبرى في وقت تباطؤ نموه، وعلى رغبة النظام في تقديم نفسه كقطب للاستقرار أمام المثير للقلاقل، ترامب.
وبينما يتنامى عدم ثقة الأوروبيين تجاه النوايا الأمريكية، وفقًا لصحيفة "دير شبيغل" الألمانية، أظهر الرئيس الفرنسي جبهة قتالية في تشنغدو: "الوحدة بين الأمريكيين والأوروبيين ضرورية. يجب مواصلة الجهد الحربي، ومتابعة المحادثات، وزيادة الضغط على الاقتصاد الروسي".
تُبرز زيارة ماكرون إلى الصين التحوّل العميق في ميزان القوة بين بكين وأوروبا، حيث أصبحت الصين في مقدمة الثورة الصناعية الجديدة، تصدّر فائض إنتاجها عالميًا وتقدّم نفسها كقوة تكنولوجية كبرى.
هذا الواقع يبدّد حلم الشركات الغربية في السوق الصينية كـ"إلدورادو" (مدينة الذهب الأسطورية) اقتصادي، ويُظهر اختلالًا تجاريًا اعتبره ماكرون غير قابل للاستمرار، محذرًا من تفكك النظام العالمي ومن اتجاه أوروبي نحو الحمائية إذا لم تتحقق "إعادة توازن" في العلاقات الصينية-الأوروبية خلال الاستحقاقات الدولية المقبلة.
يمثل هذا المشهد نهاية حقبة بدأت في الثمانينيات حين تدفقت الاستثمارات الغربية إلى الصين مقابل نقل التكنولوجيا.
اليوم تعترف أوروبا بتفوّق صيني متنامٍ وتسعى لقلب المعادلة عبر جذب استثمارات صينية إلى أراضيها مع نقل للخبرات.
ورغم موافقة شي المبدئية على "استثمارات متبادلة"، ظل الالتزام محدودًا، فيما حاول ماكرون، عبر الرموز الثقافية كـ"الروح الفروسية" الفرنسية، الحفاظ على مكانة بلاده في مواجهة قوة صينية تعود بقوة إلى صدارة التاريخ العالمي.
زيارة ماكرون للصين كشفت عن واقع مرير: أوروبا لم تعد اللاعب الرئيس الذي كانت عليه، بل باتت تحاول يائسة الحفاظ على مكانة في عالم يعاد تشكيله بين قوتين عظميين.
"الخط الفاصل يزداد ضيقًا"، كما قال أحد أعضاء الوفد، وفرنسا تقف على حافة الهاوية بين أن تكون قوة مستقلة أو مجرد تابع في النظام العالمي الجديد.