في مشهدٍ غير مسبوقٍ قلب الديمقراطية الأمريكية منذ احتجاجات 6 يناير 2021، تعيش العاصمة الأمريكية تحت عباءة الحرس الوطني، مع تصاعد أعداد جنود الحرس الوطني في شوارعها إلى نحو 1835 عنصرًا، لكن هذه المرة دون حالة طوارئ، معلنةً أول خطرٍ داهمٍ ظاهر. فهل نحن أمام استجابةٍ أمنية حقيقية لـ“استعادة الأمن” أم "هندسة خوفٍ" مدروسةٍ قبيل لحظةٍ سياسية حاسمة؟
رغم أن هذه الخطوة تأتي تحت غطاء “استعادة الأمن”، فإنها فجّرت تساؤلاتٍ عميقةً حول الهدف الحقيقي من هذا الحضور الفيدرالي المتزايد.
وبينما انخفضت معدّلات الجرائم العنيفة في واشنطن منذ عام 2023، أعلن حكّام خمس ولاياتٍ جمهورية — من بينها ميسيسيبي ولويزيانا — إرسال مئات الجنود إلى العاصمة. في الوقت ذاته، أعرب مسؤولو المدينة ومجلسُها المحلي عن حيرةٍ وقلقٍ إزاء هذا التوسُّع المفاجئ في الحضور العسكري.
عمدة المدينة، مورييل باوزر، صرّحت بأن هذه التعزيزات "غير منطقيةٍ" كما أنها ليست خاضعةً لسلطتها، مؤكدةً أن الأمر يتطلَّب مُساءلةً صريحة: "لماذا يُنشر الجيش في مدينةٍ أمريكية لحماية الأمريكيين؟".
من جانبه كشَف أستاذ القانون الجنائي بجامعة بني وليد بليبيا وأكاديمية الدراسات العليا بروفيسور مفتاح محمود اجبارة، أن هذه الخطوة في ظاهرها تهدف لمحاربة الجريمة، هذه الجريمة الموجودة منذ التسعينيات في العاصمة واشنطن.
وأضاف "اجبارة"، في تصريحاتٍ خاصة لـ"إرم نيوز"، أن السبب الرئيسي هو مواجهة التنظيمات اليسارية المعارِضة لترامب، وهذا هو الهدف السياسي الذي دفَع ترامب لاستدعاء قوات الحرس الوطني من بعض الولايات.
منشورات بعض الحكّام على مواقع التواصل كانت واضحةً في خطابها: "الجريمة خرجت عن السيطرة"، و"يجب إعادة الأمن والنظام إلى العاصمة"، لكن مشاهدة الجنود وهم يلتقطون صورًا مع السياح في مواقع لا تُعدّ ذات معدل جريمةٍ مرتفع — مثل حوض تايدال أو نُصُب واشنطن التذكاري — أثارت جدلًا إضافيًّا: هل نحن أمام عمليةٍ أمنيةٍ أم حملةٍ رمزيةٍ ذات أهدافٍ سياسية؟
فيما تنتشر فرق في المترو وعلى الأرصفة وبين المعالم، تؤكِّد إدارة شرطة مترو ترانزيت أن هذه القوات "تساعد" في تعزيز الأمن، ولكن دون القيام باعتقالاتٍ مباشرة.
وفي الخلفية، تقف التصريحات الرسمية عند خطوطٍ عامة: "دعْم جهود الرئيس لجعل العاصمة آمنةً وجميلةً"، بينما يتجنَّب البيت الأبيض الإجابة على سؤالٍ حاسم: هل طلب ترامب شخصيًّا من هذه الولايات إرسال قوات؟
تظاهراتٌ قادها ناشطون في "فري دي سي" التي تنادي بالحكم الذاتي لسكان مقاطعة كولومبيا في واشنطن، هتفت ضدَّ عسكرة المدينة، مطالبين بإعادة القوات إلى ولاياتها، واعتبر سكانٌ كثيرون هذا الانتشار العسكري المكثف استفزازًا يُضعِف الشعور بالأمن بدلًا من تعزيزه.
عضوة المجلس كريستينا هندرسون (مستقلة)، اختصرت المشهد بقولها: "القوات الحالية لا تفعل الكثير... فماذا سيفعل القادمون؟".
ما بدأ تحت شعار "الحفاظ على النظام"، فتح أبوابًا للتشكيك في النوايا: هل نعيش تحوّل العاصمة من رمزٍ مدني إلى منصةٍ للاستعراض الفيدرالي؟ وهل صار الحرس الوطني أداةً بيد الرئاسة في مشهدٍ سياسي منقسم؟
فيما يبدو المشهد مستمرًّا، والإجابات تزداد تعقيدًا، يُسلِّط اجبارة الضوء على أن هذا الموقف يُعدُّ غريبًا على المجتمع الأمريكي الذي يُراعي التعدُّدية السياسية ولا يلجأ لقمع معارضية، متسائلًا عمَّا إذا كانت الولايات المتحدة ذاهبةً للزعيم الأوحد، "لا أدري تمامًا، غير أن المؤشِّرات تدفعُني لتأييد ذلك" وفق تعبيره.