منذ الشهر الأول للعام الجاري، أدركت أوروبا أنها أمام مفترق طرق تاريخي مع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، فعلى مدى أحد شهراً أرسل عدة إشارات نحو "الانفصال" عن القارة العجوز، لكن الشهر الثاني كان أوضح نحو اتجاه الطرفين للقطيعة.
ويوم الرابع من ديسمبر، كُشف عن استراتيجية الأمن القومي الجديدة، التي وَصفت أوروبا بأنها "ضعيفة" ودعت إلى تحملها "المسؤولية الأساسية" عن دفاعها، لتنتقل إدارة ترامب من توجيه الانتقادات إلى القارة نحو "التهديد الصريح".
وترى صحيفة "نيويورك تايمز" أن الطابع الرسمي الصريح والمؤثر للوثيقة زاد من قسوة الإهانات المتواصلة، مع إعلان أكيد بأن الولايات المتحدة لن تضمن أمن القارة بعد الآن، متهمة الاتحاد الأوروبي بـ"كبح الحريات السياسية" مع تحذير من أن بعض أعضاء الناتو يخاطرون بأن يصبحوا "أغلبية غير أوروبية" بسبب سياسات الهجرة.
في السنوات الأخيرة، شهدت أوروبا تحولاً جذرياً في سياستها الأمنية، مدفوعاً بحرب روسيا على أوكرانيا منذ فبراير 2022، وتعززاً بتراجع الالتزام الأمريكي الذي عبّر عنه ترامب صراحة خلال حملته الانتخابية في 2024.
ووفق تقرير لمعهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية، فقد أدت عودة ترامب إلى "رفع المخاوف حول التزام أمريكا بأوروبا إلى مستوى جديد"، مما يتطلب استثماراً في "قوة ردع أوروبية قوية".
ويعود الاعتماد الأوروبي على أمريكا إلى أيام الحرب الباردة، حيث شكل حلف الناتو الركيزة الأمنية للقارة. لكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في 1991، انخفض الإنفاق الدفاعي الأوروبي إلى أقل من 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي في بعض الدول، لاعتمادها على الضمان الأمريكي بموجب المادة 5 من معاهدة الناتو.
لكن عودة ترامب في يناير الماضي، أعادت إحياء الجدل حول "موت دماغ الناتو"، كما وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 2019، وأكدته تصريحات ترامب في حملته الانتخابية بأنه "لن يحمي الحلفاء الذين لا يدفعون".
ويصف تقرير لمركز كارنيغي للسلام الدولي كيف حاولت أوروبا "ترامب - حماية نفسها" خلال الولاية الأولى (2017-2021)، لكن الآن تُصنع "خطة ب" تشمل تعزيز التعاون الفرنسي-البريطاني، وإعادة إحياء اتفاقيات التجارة الحرة مع الهند وميركوسور، ورفع الإنفاق الدفاعي إلى أكثر من 3% من الناتج المحلي.
وليس هذا التحول ردّ فعل عابر، بل استجابة لانخفاض الثقة، فقد أظهر استطلاع "بيو ريسيرش" مؤخراً انخفاضاً بنسبة 12.9% في الرأي الإيجابي تجاه أمريكا بين الأوروبيين مقارنة بـ2024.
شهد العام 2025 عدة مؤشرات على الاستجابات الأوروبية في مجال الدفاع، تمهيداً للانفصال عن أمريكا، فمع تجاوز الإنفاق الدفاعي حاجز 380 مليار يورو في القارة، كانت المشتريات العسكرية ترتفع 39% عن عام 2023 بفاتورة تتجاوز 100 مليار يورو.
أما خطة إعادة تسليح القارة التي اقترحتها رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، فقط رصدت 800 مليار يورو بما في ذلك 150 مليار يورو للقروض للمشاريع المشتركة.
وتوازياً، تتزايد الدعوات داخل المؤسسات الأوروبية لإحياء فكرة "الجيش الأوروبي"، رغم التباينات السياسية والعسكرية بين الدول الأعضاء.
رغم ذلك، تشير التقديرات العسكرية الغربية، وفق تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز"، إلى بوجود فجوات هائلة في القدرات الأوروبية، لكنها تؤكد إمكانية التعويض إذا تم التصرف فوراً، خصوصاً مع تصاعد التهديد الروسي.
كما أنه من دون الولايات المتحدة التي توفّر أكثر من نصف الطائرات والدعم اللوجستي، هناك ثغرات "خطيرة" مثل النقص في 300 ألف جندي مدرب، والفجوة في الدفاع الجوي المتكامل والصواريخ طويلة المدى، بالإضافة إلى الاعتماد على واشنن في 246 قمراً صناعياً للاستخبارات، وفق "نيويورك تايمز".