عاشت إسطنبول، اليوم الاثنين، حدثاً مفصلياً، حيث طوقت قوات الشرطة مقر حزب الشعب الجمهوري المعارض الذي يشهد بدوره انقساماً داخلياً حاداً بالتزامن مع تحميل قادته الرئيسين، حكومة حزب العدالة والتنمية، المسؤولية عما يجري.
ويترقب ملايين الأتراك كيف ستنتهي أحدث أزمات البلاد السياسية التي عادة ما تكون إسطنبول ساحتها، ومكان حسمها، بوصفها العاصمة غير الرسمية لتركيا من الناحية الاقتصادية والسياسية والتاريخية والديمغرافية بسكانها الـ 16 مليون نسمة.
وطوقت الشرطة التركية، مقر حزب الشعب الجمهوري في مدينة إسطنبول، مساء أمس الأحد، قبيل وصول إدارة جديدة لفرع الحزب عينتها المحكمة لتسلم المقر، وسط تهديد من قادة الحزب بمنع مجلس الوصاية الذي عينته المحكمة من الدخول للمقر.
وقوبلت الخطوة الحكومية، بمعارضة زعيم حزب الشعب، "أوزغور أوزيل"، والذي دعا أنصار الحزب في وقت متأخر الليلة الماضية، إلى كسر "الحصار" على مقر الحزب على حد وصفه، لتجد دعوته استجابة كبيرة.
وتجمع متظاهرون قرب مقر حزب الشعب الجمهوري في إسطنبول، واشتبك بعضهم مع الشرطة التي منعت المحتجين من الوصول للبناء الذي يوجد فيه عدد من أعضاء الحزب المعارضين لدخول وتسلم مجلس الوصاية برئاسة السياسي والنائب السابق في الحزب "غورسيل تيكين".
ولتخفيف التصعيد وتزايد الاحتجاجات، حظر والي إسطنبول، "داوود غول" التظاهرات والتجمعات السياسية في العديد من مناطق إسطنبول لمدة 3 أيام، بينما تشهد مواقع التواصل الاجتماعي تقييداً في نشر ومشاهدة الصور ومقاطع الفيديو أو فتح بث مباشر.
وشكلت ظهيرة اليوم الاثنين حدثاً سياسياً ساخناً بعدما حدد "غورسيل" منتصف اليوم موعداً لقدومه إلى مقر الحزب في إسطنبول وتسلم مهامه رغم معارضة قادة الحزب الرئيسين وتمسكهم برئيس فرع إسطنبول المنتخب "أوزغور تشيليك".
وتعرض مجلس الوصاية الذي عينته المحكمة لانتقادات واسعة وتهديدات بالفصل من الحزب، لكن "غورسيل" أبدى مرونة في الرد على تلك التهديدات ودعا للوحدة، مشيراً لكونه من أبناء حزب الشعب.
وقضت محكمة تركية، يوم الثلاثاء الماضي، بإلغاء نتائج مؤتمر حزب الشعب الجمهوري في إسطنبول لعام 2023، وعزل القيادة التي انتخبها هذا المؤتمر بعدما خلصت إلى أن وجود رشاوى تحكمت في أصوات المندوبين ليفوز "أوزغور تشيليك".
اختبار حاسم
ينظر سياسيون أتراك كثر للأزمة الراهنة داخل حزب الشعب الجمهوري على أنها اختبار لقدرة قادة الحزب الحاليين، على تجاوزها وتحويلها لمواجهة مع حزب العدالة والتنمية الحاكم برئاسة رجب طيب أردوغان.
وبدت تلك النية واضحة لدى قادة حزب الشعب الجمهوري، حيث ركزوا في تصريحاتهم حول الأحداث الأخيرة، على انتقاد الحكومة وتحميلها المسؤولية عبر التشكيك في حكم المحكمة الذي أوقف مجلس الحزب في إسطنبول، متهمين إياها بعدم الاختصاص في النظر بتلك القضية.
كما دعا زعيم الحزب أزغور أوزيل، وزير الداخلية "علي يرلي كايا"، لسحب الشرطة من محيط مقر الحزب، وقال إنه بيت لأعضاء الحزب ولا يجوز منع الأعضاء من دخوله، متهماً الوزير بخلق الأزمة.
مواجهة رئيسة
تبدو أحداث إسطنبول اختباراً مبكراً لما سيجري بعد نحو أسبوع عندما يمثل زعيم حزب الشعب الجمهوري، أوزغور أوزيل، أمام المحكمة في قضية أخرى قد تؤدي إلى عزله عن رئاسة الحزب إذا تم إثبات مخالفات إجرائية في المؤتمر العام للحزب عام 2023.
وكان أوزيل قد فاز في ذلك المؤتمر، وانتخب زعيماً للحزب ليحل محل "كمال كليجدار أوغلو" الذي خسر أمام الرئيس رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية في وقت سابق من عام 2023.
ويواجه أوزيل ومجلسه، العزل أو الوقف الاحترازي عن ممارسة مهامهم، وعودة كليتشدار أوغلو وفريقه لإدارة الحزب حتى عقد مؤتمر عام جديد إذا قضت المحكمة المدنية الابتدائية في أنقرة في 15 أيلول/ سبتمبر الجاري ببطلان ذلك المؤتمر العام الاعتيادي الـ38 الذي عقد في 2023، بسبب ادعاءات بوجود مخالفات في انتخاب المندوبين.
ويعتقد محللو السياسة الأتراك، أن المسار الذي ستتخذه أزمة إسطنبول الحالية، سيؤثر بشكل كبير في مسار زعامة حزب الشعب الجمهوري في الأسبوع المقبل، سواء عبر تفاهمات داخلية تبدو صعبة لكنها تمنح الحزب قوة ووحدة مفقودة، أو عبر تصعيد سياسي يعتمد على الشارع.
خطوة احترازية
تبدو القيادة الحالية لحزب الشعب الجمهوري في موقف قوي رغم الانقسام الحاصل في صفوف الحزب العليا، على الرغم من عزل واعتقال قياديين بارزين، وبينهم أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول الكبرى الذي كان يُنظر له على أنه المرشح القوي الذي سيغلب أردوغان في أقرب انتخابات رئاسية.
فقد أقدم قادة حزب الشعب، على خطوة استباقية لمواجهة احتمال عزل رئيسهم أوزغور أوزيل وعودة رئيسه السابق كمال كليتشدار أوغلو، أو تعيين وصي على الحزب بقرار قضائي كما جرى في فرع الحزب بإسطنبول.
إذ طلب الحزب من اللجنة العليا للانتخابات السماح له بعقد مؤتمر عام استثنائي في 21 أيلول/سبتمبر الحالي، مذيلاً بتوقيع أكثر من 900 مندوب، لضمان الحصول على الموافقة.
وإذا أقدمت المحكمة في أنقرة على تعيين مجلس أوصياء لإدارة الحزب بدلاً من مجلس أوزغور أوزيل، فلن يدير مجلس الوصاية الحزب سوى أيام معدودة لحين عقد المؤتمر الاستثنائي مجدداً.
وفي حين تضمن تلك الخطوة، إدارة الحزب عبر مجلس منتخب من الأعضاء، فإن فوز أوزيل في المجلس الجديد قد لا يكون مضموناً وسط الانقسام الحاصل في حزب الشعب الجمهوري وتوقيف كثير من قادته عن النشاط السياسي أو اعتقالهم.
ومنذ الفوز الكبير الذي حققه حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات البلدية في آذار/مارس 2024، على حساب حزب العدالة والتنمية الحاكم للمرة الأولى منذ 22 عاماً، واحتفاظه بالسيطرة على إسطنبول، وأنقرة وغالبية المدن الرئيسة الأخرى، تعرض كثير من أبرز مسؤوليه لاتهامات بالفساد وتحقيقات قضائية.
وفي مارس/آذار الماضي، قررت السلطات القضائية سجن رئيس بلدية إسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو على ذمة المحاكمة في قضية فساد يقول الحزب إنها مدبرة لإبقاء الرئيس أردوغان في السلطة عبر إبعاد خصم قوي عن منافسته، بينما تنفي الحكومة أن تكون القضية سياسية.
ولبى محتجون من أنصار حزب الشعب الجمهوري، في الأشهر الماضية التي أعقبت اعتقال "إمام أوغلو"، دعوات للاحتجاج بطرق مختلفة، بينها التظاهر لأيام في وسط المدينة القديمة.
ويواجه الحزب الحاكم الذي يدير البلاد منذ أكثر من 20 عاماً، انتقادات واسعة بسبب تراجع قيمة العملة المحلية وقدرة الأتراك الشرائية، وارتفاع التضخم لمستويات قياسية.