قبل عامَين من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، يجد التجمع الوطني الفرنسي نفسه أمام "صراع خفي" بين المعلمة والتلميذ، زعيمته التاريخية مارين لوبان، وخليفتها الصاعد، جوردان بارديلا.
وبحسب تقرير لصحيفة "بوليتيكو"، فإن لوبان، التي خاضت سباق الرئاسة ثلاث مراتٍ واقتربت من الفوز في 2022، تواجه اليوم عقبةً كبرى؛ إدانة قضائية بالاحتيال تُهدد بمنعها من الترشح في 2027، بانتظار الاستئناف المرتقب في صيف 2026. ورغم أنها تنفي التهم وتصفها بأنها "سياسية"، فإن الحكم ألقى بظلالٍ ثقيلةٍ على مستقبلها.
إلى جانب ذلك، لا تزال لوبان أسيرة "النظام الانتخابي"، إذ يجتمع الوسط واليسار عادةً في الجولة الثانية لقطع الطريق عليها. هذه المعضلة فتحت الباب واسعًا أمام جوردان بارديلا، رئيس الحزب البالغ من العمر 29 عامًا، الذي أصبح اسمه مطروحًا بجديةٍ كبديل.
صعود بارديلا
بدأ بارديلا مسيرته كتلميذٍ سياسي للوبان، لكنه بات اليوم شخصيةً جماهيرية قادرةً على جذب شرائح لم يكن التجمع الوطني يحلم بها من قبل: رجال الأعمال، واليمين الوسط، والطبقة المتوسطة المتضررة من الضرائب.
في "قمة الحرية" التي انعقدت بباريس هذا الصيف برعاية رجال أعمال نافذين، خطف الأضواء بهجومه على البيروقراطية الأوروبية ودعوته إلى خفض الإنفاق الاجتماعي، فيما اعتبره المراقبون خطابًا أقرب إلى الليبرالية الاقتصادية من نهج لوبان الشعبوي التقليدي.
لوبان "شعبوية".. بارديلا "ليبرالي"
على عكس لوبان، التي بنت نفوذها في معاقل الطبقة العاملة والمناطق الصناعية المتراجعة في شمال شرق فرنسا، يستهدف بارديلا الجنوب الأكثر ثراءً، حيث يبحث عن ناخبين تقليديين لحزب "الجمهوريين" الذين قد يمنحونه النصف زائد واحد في جولة الإعادة.
مقارناتٌ كثيرة تُعقد بينه وبين رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، التي نجحت في توسيع قاعدة اليمين المتشدّد، بينما تُشبّه لوبان بماتيو سالفيني، الشعبوي القومي الذي يركّز على الهجرة.
رسميًا، يصرّ التجمع الوطني على أن وحدة الصف باقية، وأن بارديلا لا ينافس "معلمته". لكن الواقع أكثر تعقيدًا، فعندما دعا بارديلا في يونيو/حزيران الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الاستقالة وإجراء انتخاباتٍ مبكرة، أثار غضب المقربين من لوبان، إذ أن انتخابات مبكرةً قبل استئناف قضيتها ستعني خروجها من السباق. ورغم مسارعة الطرفين إلى إظهار الانسجام في زياراتٍ مشتركة، فإن التوتر أصبح علنيًا.
الخطة "ب"
إدانة لوبان دفعت الحزب إلى الانتقال من نفْي الحاجة إلى "خطة بديلة"، إلى الإعلان رسميًا أن بارديلا هو المرشح الاحتياطي. هذا الوضع يضع الشاب أمام مهمة مزدوجة: إظهار استعداده لقيادة حملة رئاسية مع تجنّب الظهور كمن يطعن لوبان في ظهرها.
أحد المقربين منها اعترف: "بالطبع الوضع معقد إنسانيًا. نعرف أن بارديلا خيار واقعي إذا لم تستطع مارين الترشح".
بارديلا يستقطب الوسط
الأمر الملفت أن استطلاعات الرأي تضع بارديلا على قدم المساواة مع لوبان من حيث فرص الفوز، بل إن بعض مراكز الاستطلاع اختارته وحده لقياس نوايا التصويت للتجمع الوطني.
في البرلمان الأوروبي، قاد بارديلا قائمة حزبه محققًا نتائج لافتة، وهو يواصل الآن توجيه خطابه إلى قادة الأعمال وأوساط اليمين الوسطي، حتى وصل إلى لقاء ودي مع الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، لقاء لم تكن لوبان لتسعى إليه أبدًا.
لمواجهة صعود بارديلا، لجأت لوبان إلى إظهار ثقلها الدولي، فنظمت في يونيو/حزيران مهرجانًا انتخابيًا كبيرًا إلى جانب حلفاء أوروبيين بارزين مثل فيكتور أوربان وماتيو سالفيني. الهدف: تذكير القاعدة الحزبية بأنها لا تزال الوجه الأبرز لليمين القومي في أوروبا، لكن داخل الحزب، يبدو المزاج متقبلاً لاحتمال ترشح بارديلا. تقول كريستيل ماهو، مسؤولة محلية في بريتاني: "أفضل مارين، لكن إن لم تترشح، فسيكون جوردان خيارًا طبيعيًا".
معركة على الهوية
ترى الصحيفة أن الجدل الحقيقي يتمحور داخل التجمع حول هوية الحزب الاقتصادية. لوبان بنت مشروعها على الحمائية وحماية الطبقة العاملة، أما بارديلا، فيغازل الوسط الليبرالي المحافظ، داعيًا إلى خفض الضرائب والمرونة الاقتصادية. هذه التحولات تُقلق الحرس القديم الذي يخشى أن يخسر الحزب جوهر قاعدته الاجتماعية.
نحو 2027
بين زعيمة مخضرمة تُواجه حكمًا قضائيًا قاسيًا، ونجم شاب يفتح أبوابًا جديدة، يجد التجمع الوطني نفسه أمام مفترق طرق تاريخي؛ فهل ستبقى مارين لوبان المرشحة الطبيعية لليمين المتطرّف، أم أن الحزب سيجد في جوردان بارديلا الوجه الجديد القادر على تخطي حاجز الـ50% وبلوغ قصر الإليزيه لأول مرةٍ في تاريخه؟
الجواب لن يتّضح قبل أن يقول القضاء الفرنسي كلمته في قضية لوبان، لكن من المؤكّد أن الطريق إلى 2027 لن يكون مُعبّدًا داخل أروقة الحزب نفسه.