من القرن الإفريقي إلى خليج غينيا، تتحرك القيادة العسكرية الأمريكية (أفريكوم) بقيادة الجنرال داغفين أندرسون بخطى متسارعة لتثبيت نفوذ واشنطن في القارة السمراء، عبر التدريب والتسليح و بناء تحالفات جديدة، في مواجهة سباق النفوذ مع بكين وموسكو.
منذ تأسيسها عام 2007، تُعد القيادة الأمريكية في أفريقيا (AFRICOM) الذراع العسكرية للولايات المتحدة في القارة، وهدفها المعلن تعزيز الأمن والاستقرار ومكافحة التهديدات العابرة للحدود بالتعاون مع الجيوش الأفريقية، لكن مع تصاعد التنافس الدولي على أفريقيا، توسّعت مهمتها لتصبح أداة من أدوات السياسة الخارجية الأمريكية.
منذ توليه المنصب في أغسطس 2025، أطلق الجنرال داغفين أندرسون حملة دبلوماسية عسكرية نشطة شملت زيارات إلى القرن الأفريقي وبنين والكاميرون، إلى جانب لقاءات غير معلنة مع مسؤولين أمنيين في نيجيريا.
هذه الجولة، بحسب "أفريك إنتليجانس"، تهدف إلى إعادة بناء جسور الثقة مع الحلفاء التقليديين وسط صعود المنافسين الجدد.
وتعكس تحركات أفريكوم رغبة إدارة دونالد ترامب في دمج المصالح الاقتصادية بالأمنية، فالإدارة الجديدة تعتبر أفريقيا ساحة مفتوحة للتجارة والاستثمار بقدر ما هي ميدان صراع على النفوذ.
وبذلك، باتت أهداف أفريكوم تتوزع بين مكافحة الإرهاب، ومواجهة النفوذ الصيني والروسي، وفتح أسواق جديدة للسلاح الأمريكي عبر آلية “البيع العسكري الخارجي”.
تُعد آلية البيع العسكري الخارجي (FMS) أداة واشنطن المفضلة لتقوية الشراكات الأمنية، فمن خلال عقود حكومية مباشرة، تحصل الدول الأفريقية على تجهيزات أمريكية مع دعم تقني وتمويل ميسر.
أبرز هذه الصفقات حاليًا هو عقد المروحيات الهجومية Bell AH-1Z Viper مع نيجيريا بقيمة مليار دولار، ورغم سداد نصف المبلغ، ستُدفع الأقساط المتبقية حتى نهاية العقد الجاري، فيما تعمل أفريكوم على تسهيل شروط السداد لتشجيع مزيد من الشركاء على الانخراط في البرنامج.
في ساحل العاج، تسعى واشنطن إلى تعزيز التعاون الأمني بعد تراجع خطط إنشاء قاعدة للطائرات المسيّرة.
وقد عرضت أفريكوم على أبيدجان صفقات تشمل طائرات بدون طيار ومركبات مدرعة وزوارق دورية، إلى جانب دعم فني لتحديث المروحيات القديمة من الحقبة السوفياتية.
هذه المبادرات تأتي في إطار رؤية أمريكية لتثبيت أبيدجان كنقطة ارتكاز أمنية في غرب أفريقيا، خصوصًا بعد استضافة البلاد لتمارين “فلينتلوك 2025” الخاصة بالقوات الأمريكية.
في شرق أفريقيا، تبقى كينيا الشريك الأهم للولايات المتحدة، فقد دعمت أفريكوم مشروعًا لتحديث 20 طائرة مقاتلة من طراز Northrop F-5، إلى جانب تزويد نيروبي بـ 16 مروحية جديدة سيتم تسليمها بحلول منتصف 2026.
لكن النفوذ الأمريكي في نيروبي يواجه تحديًا متزايدًا من الصين، التي تواصل ضخ استثمارات هائلة في البنية التحتية والموانئ وتوسيع تعاونها الأمني، وترى واشنطن في كينيا ساحة اختبار حقيقية لتوازن القوى في شرق أفريقيا.
أخطر ما يقلق واشنطن اليوم هو احتمال إنشاء قاعدة بحرية صينية على الساحل الأطلسي الأفريقي، الأمر الذي تعتبره تهديدًا مباشرًا لتفوقها البحري.
وتتحدث تقارير البنتاغون عن الغابون وغينيا الاستوائية كخيارين محتملين، ففي الغابون، منح الرئيس السابق علي بونغو موافقة أولية لبكين قبل الإطاحة به عام 2023، فيما يلتزم خليفته الجنرال بريس أوليغي نغويما موقفًا غامضًا يثير قلق واشنطن.
أما في غينيا الاستوائية، فتشتبه الولايات المتحدة في أن الصين تخطط لاستخدام ميناء “بارا” كمحطة بحرية عسكرية مستقبلية، وقد حذر الجنرال أندرسون أمام مجلس الشيوخ الأمريكي من “عسكرة البنى التحتية المدنية الصينية في أفريقيا”.
في موازاة ذلك، تواصل أفريكوم جهودها الميدانية عبر تمرين “فلينتلوك” السنوي، الذي تنظمه قيادة العمليات الخاصة الأمريكية بمشاركة نحو ألف جندي من 40 دولة أفريقية.
وستستضيف ساحل العاج النسخة المقبلة في أبريل 2026، من خلال الأكاديمية الدولية لمكافحة الإرهاب في جاكفيل وميناء أدياكي للتدريبات البحرية.
سيركز التمرين على مكافحة التضليل الإلكتروني وتبادل المعلومات الاستخبارية، وهو ما يعكس اتساع مفهوم الأمن لدى واشنطن إلى الفضاءين الرقمي والإعلامي.
ورغم الانقلابات المتتالية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، تحاول أفريكوم الإبقاء على قنوات تواصل محدودة مع هذه الأنظمة التي تميل نحو موسكو.
وتمنع القوانين الأمريكية (المادة 7008) التعاون العسكري المباشر مع حكومات منبثقة عن انقلابات، إلا أن القيادة تبحث عن صيغ مرنة للحوار.
زار الجنرال كلود ك. تيودور، قائد العمليات الخاصة في أفريكوم، نيامي في سبتمبر الماضي لمحاولة إعادة التواصل مع المجلس العسكري النيجري وتشجيعه على العودة إلى تمرين “فلينتلوك”.
ويرى مراقبون أن الغاية من ذلك عدم ترك فراغ تملؤه روسيا بالكامل.
في عهد ترامب، أصبحت أفريكوم أداة اقتصادية بقدر ما هي عسكرية، فالإدارة الأمريكية ترى في القارة الإفريقية سوقًا واعدة لمنتجاتها الدفاعية والتكنولوجية.
وفي أغسطس 2025، نظمت القيادة مؤتمرًا لوجستيًا في ليبيريا بمشاركة شركات أمريكية، كما ستستضيف نيروبي في ديسمبر المقبل ملتقى “سايلنت ووريور” الذي يجمع القوات الخاصة الأفريقية مع القطاع الخاص الأمريكي، وبهذا، تقدم أفريكوم نفسها كـ ضامن أمني للاستثمارات الأمريكية في أفريقيا، وسفير غير معلن لقطاعها الصناعي.
وتتجه واشنطن نحو نموذج الوجود الخفيف (Light Footprint)؛ لا قواعد ضخمة ولا انتشار دائما، بل حضور مرن يعتمد على المناورات المشتركة وصفقات التسليح والدعم التقني، وهذا النموذج يقلل التكلفة السياسية والمالية ويحافظ في الوقت نفسه على النفوذ العملياتي.
لكن نجاحه يعتمد على قدرة الجنرال أندرسون على تثبيت التحالفات القديمة وبناء جسور جديدة في بيئة تتغير بسرعة وتزداد تنافسًا بين القوى الكبرى.
الجنرال داغفين أندرسون ليس غريبًا عن القارة، فقد خدم سابقًا ضمن القوات الخاصة الأمريكية في القرن الأفريقي والشرق الأوسط، ويُعرف بقدرته على الجمع بين الحزم العسكري والبراغماتية السياسية.
يعكس اختياره لقيادة أفريكوم توجّه واشنطن نحو دبلوماسية عسكرية اقتصادية هجينة تتجاوز المفهوم التقليدي للقوة الصلبة.
ختاما، في زمن تتقاطع فيه المصالح الدولية فوق أرض أفريقيا، تعمل أفريكوم بقيادة أندرسون على إعادة تعريف الوجود الأمريكي في القارة.
وبين التدريب والتجارة، وبين مكافحة الإرهاب واحتواء الصين، تبدو واشنطن مصمّمة على البقاء لاعبًا أساسيًا في مستقبل الأمن الأفريقي – ولكن بأسلوب جديد يجمع بين الصلابة والمرونة.