من الصعب اعتبار مناورات "زاباد" الروسية و"كوادريجا" الألمانية/الأوروبية على أنها مناورات عسكرية تقليدية، ذلك أنها تجري على حواف حدود الناتو، وفي ظروف التوتر الحاد بين موسكو والغرب على خلفية الحرب الأوكرانية.
وفي ظل الجهود الحثيثة التي تبذل لإنهاء أعنف حرب تعصف بأوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، فإن هذه المناورات العسكرية تأتي محملة برسائل ردع، وتنطوي على رمزية سياسية بالغة الدلالة، بحسب مصادر.
وما يعزز مثل هذا الرأي، بحسب المصادر، هو تزامن الحدثين بالقرب من حدود الناتو، وهو ما يؤشر إلى أن الطرفين: الغرب وموسكو، على أهبة الاستعداد لمواجهة أي "تهور أو تصعيد" قد يصدر من طرف ضد الآخر.
"زاباد" تعني بالروسية "الغرب"، وفي ذلك إشارة إلى الجهة التي قد يأتي منها التهديد لموسكو، كما ترى المصادر التي تضيف بأن مفردة "الغرب" لا تعني الجهة فحسب، بل ترمز إلى معنى اصطلاحي أشمل وهو المعسكر المناهض لموسكو.
المناورات التي ستجرى في الثلث الثاني من شهر أيلول/سبتمبر الجاري من المقرر أن يشارك فيها حوالي 30 ألف جندي وتمتد إلى أراضي بيلاروسيا، حليفة موسكو.
بهذا المعنى، ووفقا لمراقبين، فإن هذه المناورات ليست مجرد تدريبات روتينية بل استعراض للقوة على مرأى من حدود الناتو، لإظهار أن روسيا قادرة على تعبئة مئات آلاف الجنود في لمح البصر، رغم العدد الهائل من الجنود الروس الذين سقطوا منذ بدء الحرب الأوكرانية (التقديرات التقريبية تقدر العدد بنحو 250 ألف جندي).
كما تشير المناورات، التي تعتبر الأضخم، إلى أن روسيا هي "ند" للغرب، وليست ضعيفة، بحسب المصادر التي تشير إلى أن هذه المناورات تعكس العقيدة الروسية القتالية التي ترى في الغرب خصما، لا يمكن مهادنته أو الوثوق به، رغم تراجع التوتر مع واشنطن منذ بدء ولاية دونالد ترامب، الذي يعتبر نظيره الروسي صديقا.
وإلى جانب البعد العسكري والرمزي للمناورات، فإن موسكو تهدف، من خلال زاباد، إلى ممارسة الضغط النفسي والإعلامي على دول البلطيق (إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا) وبولندا، وتسعى لمعرفة رد فعل "الناتو".
وكان رئيس المخابرات العسكرية الأوكرانية كيريلو بودانوف، علق على هذه المناورات بالقول: "يُنظر إلى هذه المناورات بشكل متزايد على أنها أكثر من مجرد مناورات، هذه هي المشكلة"، في إشارة إلى أبعادها الدعائية والرمزية والسياسية.
في المشهد الآخر، تجري ألمانيا، بمشاركة نحو 18 دولة أوروبية، مناورات "كوادريجا"، وهو تمثال يعلو بوابة براندنبرغ في قلب برلين، وتجسد عربة تجرها أربعة خيول تقودها إلهة النصر.
وبوابة براندبرغ، التي بنيت العام 1791، ترمز إلى محطات مفصلية في التاريخ الألماني، أما في التاريخ الحديث ومع بناء جدار برلين عام 1961، أصبحت البوابة رمزا للانقسام الألماني، بل رمز للانقسام بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، لكونها كانت واقعة في المنطقة العازلة بين الشرق والغرب.
لكن مع سقوط الجدار أصبحت البوابة مسرحًا للاحتفالات التاريخية بالوحدة الألمانية، وتحولت إلى رمز للحرية والوحدة، وإلى نهاية الحرب الباردة.
وترى المصادر بأنه لا يمكن النظر، في ضوء ذلك، إلى المناورات الألمانية/ الأوروبية، بمعزل عن هذه الجوانب الرمزية بدءا من الاسم وانتهاء بالتوقيت.
وتقول المصادر إن هذه المناورات الألمانية تأتي كرد على مثيلتها الروسية، وتبعث برسائل إلى موسكو بأن ألمانيا وحلف الناتو عموما، قادرة على التعبئة والتصدي في عدة محاور.
وبحسب المصادر، فإن المناورات، التي يشارك فيها نحو 12 ألف جندي ألماني، ومن دول أوروبية، وأكثر من 3 آلاف مركبة عسكرية، فضلا عن الطائرات والسفن، تتكون من أربع مراحل رئيسة تشمل شمال الناتو (النرويج) ووسط أوروبا (بولندا وليتوانيا)، والجنوب (رومانيا والمجر) وأخيرا ليتوانيا.
ويظهر هذا الامتداد الجغرافي الواسع للمناورات، والتي تكاد تغطي الجبهة الشرقية كاملة للناتو، جاهزية الحلف الجماعية في صد أي تهديد روسي محتمل، خصوصا أن المناورات تحاكي سيناريوهات تفعيل المادة الخامسة من نظام حلف الناتو والتي تنص على الدفاع الجماعي في حال تعرض دولة عضو لهجوم.
كما تركز المناورات على سرعة نقل القوات والمعدات عبر أوروبا، وهو عنصر حاسم، كما ترى المصادر، إذا اندلع نزاع على الجبهة الشرقية.
وتلاحظ المصادر أن هذه المناورات، التي تبعث، كذلك، برسائل طمأنة إلى الدول الواقعة في الجبهة الشرقية للحلف مثل دول البلطيق وبولندا، تعزز الثقة بالحلف وتقوض محاولات موسكو التشكيك في تضامن الحلفاء ووحدة كلمتهم.
وتظهر هذه المناورات للمجتمعات الأوروبية أن مسألة الدفاع، لم تعد مجرد خطابات سياسية لـ"الاستهلاك المحلي"، بل باتت واقعا يتم التدريب عليه ميدانيًا، وتصرف لأجله المليارات.
في ضوء ما سبق، فإن هاتين المناورتين لا يمكن اختزالهما على أنهما مجرد تدريب عسكري روتيني، بل تعكسان صراعا رمزيا بين الشرق والغرب حول من يمتلك التفوق والجاهزية على حدود الناتو، بحسب خبراء عسكريين.
أكثر من ذلك، فإن المناورتين تعبران، بحسب الخبراء، عن معنى الهوية والقوة والبعد الجيوسياسي، فـ "زاباد" ليست مجرد تدريب على صدّ هجوم افتراضي، بل إعلان بأن روسيا قوية ولا تزال ترى في الغرب خصمها التاريخي، وهذه المناورات بكل ما تتضمن من عدة وعتاد وجنود تثبت ذلك.
في مقابل ذلك، تستمد "كوادريجا" زخمها من بوابة براندنبورغ، رمز الحرية والوحدة، كما تروج الأدبيات الألمانية، فأوروبا لم تعد منقسمة كما كان الحال في زمن الحرب الباردة وجدار برلين، بل هي متماسكة خلف حلف الناتو، فيما أصبح حلف وارسو، المقابل الشرقي له، شيئا من الماضي.