تعيش أوروبا في أسابيع متوترة بسبب الهجمات الروسية التي تتجاوز حدود الأساليب التقليدية للحرب، ما أعاد الجدل داخل مؤسسات حلف شمال الأطلسي (الناتو) حول كيفية التعامل مع ما يصفه الحلف بـ"الحرب الروسية الهجينة"، وهي مزيج من عمليات سيبرانية، حملات تضليل، تخريب ميداني، واختبارات مستمرة لحدود الحلف على الجبهة الشرقية.
فقد شهدت باريس تشويهات رمزية للمباني التاريخية، كما تعرضت سكك الحديد في بولندا للتخريب، بينما حلّقت طائرات مسيرة فوق مطارات عدة، لتذكّر الأوروبيين بقدرة موسكو على الوصول إلى نقاط ضعفهم بسرعة.
هذه التطورات دفعت السياسيين والعسكريين إلى التفكير في خيارات جديدة تتجاوز الدفاع التقليدي.
غير أن التطور الأخطر جاء مع تسريبات صحفية غربية — أبرزها في "فايننشال تايمز" ومجلة "بوليتيكو" — والتي نقلت عن مسؤولين بارزين في الحلف قولهم إن المرحلة المقبلة قد تتضمن عمليات سيبرانية استباقية أو ما سمّوه "ضربة رقمية هجومية" تستهدف البنى التحتية الروسية التي يُشتبه بأنها مصدر للهجمات.
من الدفاع الرقمي إلى الهجوم الاستباقي
بحسب التقارير، فإن رئيس اللجنة العسكرية في الناتو أشار إلى أن الحلف "لم يعد يستطيع الاكتفاء بالدفاع في الفضاء السيبراني"، وأنه يفكر في خيارات "أكثر عدوانية أو استباقية" رداً على تصاعد التكتيكات الروسية.
كما أن أوروبا لم تعد تستطيع الاكتفاء بالردّ السلبي. فوزير الدفاع الإيطالي كشف عن خطة تفصيلية من 150 صفحة تتضمن إنشاء "قوة سيبرانية أوروبية"، وتطوير وحدات تعمل بالذكاء الاصطناعي، وتنسيق عمليات مشتركة بين الدول الأعضاء لمواجهة الهجمات الروسية.
الدعوة لكسر "عقدة الخوف من التصعيد"
وفي السويد، دعا رئيس الأركان ميكائيل كلايسون إلى تجاوز "عقدة الخوف من التصعيد"، مؤكدًا أن الردع يتطلب أحيانًا اتخاذ خطوات مفاجئة لإظهار الجدية والقدرة على المواجهة.
كما شددت وزيرة الخارجية اللاتفية، بايبا برازِه، على أن الدفاع وحده لم يعد كافيًا، واقترحت تعزيز العمليات السيبرانية لتعطيل سلاسل الإمداد العسكرية الروسية وجمع المعلومات الاستخباراتية داخل العمق الروسي.
أما الخبير البولندي فيليب بريجكا، فيرى أن هذا النوع من الهجمات يمكن أن يقلل بشكل كبير قدرة روسيا على الاستمرار في الهجمات الهجينة، لكنه يحذّر من أن التنفيذ يتطلب تنسيقًا دقيقًا سياسيًا وعسكريًا.
الردع النفسي… مناورات مفاجئة على حدود روسيا
ولا يقتصر الاستعداد على العمليات السيبرانية. فقد اقترحت أوانا لونغيسكو، المتحدثة السابقة باسم الناتو، تنفيذ مناورات عسكرية مفاجئة على الحدود الروسية – البلطيقية لإظهار جاهزية الحلف ووحدته، ما يرسخ فكرة الردع النفسي ويجعل أي مغامرة روسية مكلفة.
أوروبا أمام مفترق طرق
أما الناتو نفسه، فهو يعكف على تعزيز "مركز العمليات السيبرانية المشترك"، ورفع جاهزية قوات الرد السريع، ونشر منظومات كشف الهجمات الهجينة، وربطها بالاستخبارات في زمن شبه لحظي، إضافة إلى تدريب وحدات إعلامية لمواجهة التضليل الروسي وحملات التأثير، مع الحفاظ على قدرة إنكار سياسي للعمليات الحساسة.
في نهاية المطاف، تبدو أوروبا اليوم عند مفترق طرق: بين الدفاع السلبي التقليدي، وبين اتخاذ خطوات هجومية استباقية في الفضاء الرقمي، يمكن أن تعيد رسم قواعد الحرب الهجينة.