logo
العالم

تغيّر العقيدة والمزاج.. عودة العسكرة الألمانية تثير قلق واشنطن وبروكسل

جنود ألمان خلال مناورة عسكريةالمصدر: (أ ف ب)

حافظت ألمانيا لعقود على سياسة هادئة تركز على التنمية الاقتصادية والتعاون الدولي، وتتجنب "العسكرة" عبر تناغم تام مع المزاج السياسي العالمي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية حيث خرجت ألمانيا "النازية" مهزومة، وخضعت لشروط الغرب والاتحاد السوفييتي بالابتعاد عن أي طموحات عسكرية قد تشكل تهديداً جديداً للقارة.

وفقاً لذلك، عكفت برلين على بناء ما دمرته الحرب، وتضميد الجراح، وبذلت جهوداً حثيثة ومتواصلة لمحو آثار حقبة قاتمة جلبت لها ولجيرانها المآسي، وحرصت على اتباع سياسة خارجية مرنة تحاول من خلالها "التخلص" من "عقدة الذنب" التي استقرت في الوجدان الجمعي للألمان، نظراً لدور بلادهم "المدمر" في الحرب. 

لكن من الواضح، ووفقاً لخبراء، أن هذه العقيدة الألمانية "المسالمة" التي حققت لألمانيا مكانة اقتصادية مرموقة، بدأت تتغير، خصوصاً مع بدء الولاية الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي لمح مراراً إلى ضرورة اعتماد القارة على نفسها في قضايا الأمن والدفاع، وفي ظل تعقيدات الحرب الأوكرانية التي وضعت "أمن القارة" على المحك.

من هنا، شرعت برلين في تحرير نفسها من "القيود العسكرية" التي فرضت عليها من الشرق والغرب، بل وتلك التي فرضها الألمان على أنفسهم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لتسعى إلى تأسيس أكبر جيش، سيشكل، وفقاً لخبراء، مصدر قلق لواشنطن وبروكسل.

نقطة التحول

وتجلى هذا التغيير في العقيدة العسكرية الألمانية في مصطلح "نقطة التحول" الذي ورد على لسان المستشار الألماني السابق أولاف شولتس، في إشارة الى ضرورة استثمار أموال ضخمة في مجال التسليح والعسكرة، وهي خطط شدد عليها المستشار الحالي فريدريش ميرتس الذي يبدو حريصاً على تقليص اعتماد بلاده على المظلة الأمنية الأمريكية.

وجاءت أولى الخطوات في هذا المسار العسكري الطويل في مارس الفائت، حين صوّت البرلمان الألماني (البوندستاغ) بأغلبية الثلثين على إزالة نظام كبح الديون؛ وهو ما يمهد الطريق أمام ألمانيا لإنفاق أكثر من تريليون دولار، خلال السنوات العشر المقبلة، على الدفاع والأمن والبنية التحتية للجيش.

ولا يمكن فصل هذا الاندفاع الحكومي الألماني نحو تعزيز قدرات الجيش، عن توجهات ورغبات غالبية المواطنين الألمان الذين باتوا يطمحون إلى "ألمانيا قوية عسكرياً وأكثر استقلالية"، الأمر الذي يضفي على هذه "النزعة العسكرية المتصاعدة"، زخماً إضافياً.

ووفقاً لآخر استطلاعات الرأي، فإن تعزيز قدرات الجيش الألماني يحظى بنسب تأييد مرتفعة قياساً إلى استطلاعات مماثلة سابقة، إذ يؤيد، حالياً، 64% من الألمان زيادة الإنفاق الدفاعي، ويؤيد 65% منهم زيادة عدد أفراد الجيش، في مؤشر واضح على التحول الذي طرأ على قناعات الألمان الحذرة بشأن "التسليح والحروب".

ويهدف الجيش الألماني، بحلول عام 2035، إلى زيادة قوامه إلى ما يصل إلى نحو 260 ألف جندي بالتدريج، بالإضافة إلى نحو 200 ألف جندي احتياطي.

ويرى خبراء أن هذه الأرقام قد تخضع للمراجعة في ضوء طبيعة التوترات والتحديات الأمنية التي ستشهدها القارة، علما أن الجيش الألماني يضم، حاليًا، نحو 182 ألف جندي، مع حوالي 100 ألف جندي احتياطي.

وتترافق مع هذه النية في زيادة عديد القوات الألمانية، مساعٍ من أجل إعادة فرض التجنيد الإجباري الذي كان قد أُلغي في عام 2011.

ووفقاً لموقع "دويتشه فيه"، فإنه "بالرغم من الخلاف المحتدم بين الكتل البرلمانية للتحالف الحاكم في برلين، فإن الحكومة الألمانية مُصرة على إقرار قانون الخدمة العسكرية الإجبارية الجديد في غضون العام الجاري".

وما يعزز مثل هذا التوجه الحكومي ما كشفت عنه نتائج استطلاع حديث عن تأييد غالبية الألمان لإعادة تطبيق التجنيد الإجباري في البلاد، إذ أظهر الاستطلاع الذي أجراه معهد "فورزا" في منتصف الشهر الفائت أن 54% من الألمان أعربوا عن تأييدهم لتطبيق الخدمة العسكرية الإجبارية مقابل 41% عارضوا ذلك، فيما لم يبدِ 5% من المشاركين رأيًا في هذا الموضوع.

ومن المقرر أن تشمل عمليات تطوير الجيش جميع فروع القوات المسلحة البرية والبحرية والجوية، عبر استبدال الدبابات والطائرات والسفن القديمة، وتطوير القدرات الرقمية والقيادية، بحيث تتنقل ألمانيا من "جيش صغير" ومحدود القدرات، إلى الجيش الأقوى في أوروبا بحلول العام 2035. 

أخبار ذات علاقة

مطار برلين الدولي

بعد رصد مسيرات.. تعليق الطيران وتحويل الرحلات في مطار برلين

قلق الجوار وواشنطن..

يرى خبراء أن هذا الطموح العسكري الألماني، يبدو، للوهلة الأولى، منسجماً مع رغبات الحكومات الأوروبية التي تبدي استياء من الاعتماد على "الحماية الأمنية الأمريكية" في ظل إدارة ترامب.

بل إن هذا الإنفاق العسكري الألماني،  سيكون له، كذلك، صدى إيجابياً في أروقة البيت الأبيض، في ضوء الطلبات المتكررة من ترامب لزعماء القارة بزيادة الإنفاق الدفاعي وخصوصاً ألمانيا، بوصفها القوة الاقتصادية الأولى في أوروبا.

لكن كل ذلك لا يلغي، بحسب خبراء، قلقاً أوروبياً وأمريكياً من هذا الصعود العسكري الألماني، إذ تخشى واشنطن وبروكسل من أن عودة ألمانيا القوية قد تربك التوازنات العسكرية داخل القارة.

ويرى خبراء أن مثل هذا القلق الأوروبي- الأمريكي له جذور تاريخية عميقة تعود إلى الحقبة النازية وما خلفته من دمار في القارة خلال الحرب العالمية الثانية.

ويوضح الخبراء أن الخشية الأوربية نابعة من أن ألمانيا القوية عسكرياً، إلى جانب قوتها الاقتصادية "الهائلة"، قد تعني إمكانية فرض نفوذ سياسي أكبر داخل التكتل الأوروبي الذي يسعى الى تجنب هيمنة دولة واحدة.

علاوة على ذلك، فإن الصعود العسكري الألماني "المبالغ فيه"، سيعيد النقاش حول إعادة تشكيل تحالفات داخل القارة، وهو ما قد يقوض استقلالية الدول الأصغر التي لا تملك "ترف" الإنفاق الضخم على الجانب العسكري.

وعلى المستوى الأمريكي، كذلك، ووفقاً لخبراء، فإن واشنطن، وإن كانت ترى في برلين حليفًا مهمًا ضمن "الناتو"، لكنها تخشى من أن ينحرف مسار برلين عندما تصبح قوة عسكرية "ضخمة"، فيأخذها "الغرور السياسي"، لاتخاذ سياسات "مستقلة" خارج إطار الحلف.

ويحاجج الخبراء بأن "ألمانيا القوية عسكرياً" ستقلل، دون شك، الحاجة إلى الحماية الأمريكية والوجود العسكري الأمريكي الذي يحتفظ بنحو 35 ألف جندي في ألمانيا، وهو ما سيضع واشنطن أمام تحديات إستراتيجية قد تؤدي في النهاية إلى إحداث تغييرات في سياساتها التقليدية حيال القارة.

ومن المعروف أن واشنطن فضلت على الدوام أن تبقى ألمانيا ضمن إطار أمني غربي مع حدود واضحة لقدرات الجيش، من أجل القدرة على التحكم، وتجنب أي تغييرات في موازين القوى الأوروبية.

ويحذر خبراء من أن دروس التاريخ قد تكون مفيدة في هذا السياق، فقد تقع ألمانيا مستقبلاً في أيدي حكومات "قومية" متطرفة ذات نزعة توسعية، وهو ما سيجعل من القدرات الألمانية العسكرية، قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، ومن هنا تحرص كل من واشنطن وأوروبا على أن يكون الجيش الألماني قوياً في حدود معينة، بحيث يمكن معها ضبط الإيقاع "العسكري والأمني" عند حدوث أي مفاجآت في المستقبل. 

أخبار ذات علاقة

مسيرة ألمانية من طراز "يورو هوك"

الجيش الألماني يستعد لتطوير مسيرات قتالية بعيدة المدى

 

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة © 2025 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC