تبدو العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة في مدينة غزة أقرب إلى عملية معقّدة لإعادة تشكيل الواقع الجغرافي–الديموغرافي للقطاع، فمع تعاظم الضغط العسكري، وتصاعد دعوات الإخلاء والنزوح، واستهداف البنية السكنية والخدماتية، يبدو أن المسار لا يقود فقط إلى تدمير قدرات عسكرية، بل إلى إنتاج واقع سكاني جديد يُعاد فيه توزيع البشر تحت التهديد والنار.
التهجير كأداة عسكرية
القانون الدولي الإنساني يعرّف التهجير القسري بأنه نقل السكان من مناطقهم بالإكراه أو تحت التهديد، وهو جريمة حرب إذا ارتُكب أثناء نزاع مسلح، وجريمة ضد الإنسانية إذا كان واسع النطاق أو منهجيًا.
في حالة غزة، تتجمع عدة مؤشرات عبر أوامر الإخلاء المعلنة، والقصف المتكرر لمناطق مدنية، ومنع وصول الإمدادات الإنسانية بشكل كافٍ، وتدمير البنية التحتية، كل ذلك يجعل المدنيين أمام خيار واحد متمثل بالنزوح جنوبًا في ظروف غير آمنة.
مصدر دبلوماسي أوروبي أوضح لـ"إرم نيوز" أن "الممارسات الميدانية الحالية تحمل سمات التهجير القسري، خصوصًا أن المدنيين لا يُعطَون خيارات واقعية للبقاء، ولا ضمانات بالعودة لاحقًا".
واعتبر أن "المشكلة في غياب أي بدائل واقعية للمدنيين، حين يُطلب من مئات الآلاف مغادرة مدينة مدمَّرة نحو مناطق مزدحمة أصلًا، فهذا ليس خيارًا حرًا، بل إكراه".
وأضاف أن المراقبين في العواصم الأوروبية يتساءلون إن كان الهدف من هذا النمط المتكرر للنزوح هو خلق واقع ديموغرافي جديد، "بحيث يُترك شمال غزة خاليًا من سكانه، أو على الأقل غير قابل لإعادة السكن في المستقبل القريب".
وتابع قائلًا: "في غياب جهة فلسطينية موحدة يمكن التفاوض معها، يبقى المدنيون بلا حماية سياسية، هذا الفراغ يُسهِّل تمرير سياسات النزوح، لأنه لا يوجد طرف تفاوضي معترف به يضغط باتجاه ضمانات حقيقية".
وختم بالقول: "إذا لم تُفتح مسارات تحقيق جدية على مستوى المحكمة الجنائية الدولية أو مجلس حقوق الإنسان، فسنكون أمام سابقة خطيرة تُشرعن استخدام التهجير كأداة عسكرية، وهذا ما سيقوِّض النظام الدولي برمته، وليس فقط القضية الفلسطينية".
في حين أفادت مصادر أممية لـ"إرم نيوز" أن "أي أوامر إسرائيلية تدعو السكان لمغادرة مدينة مكتظة في وقت قصير ومن دون توفير ممرات إنسانية آمنة، تُعدّ غير متوافقة مع التزامات إسرائيل بموجب القانون الدولي"، وأكدت أن الأمم المتحدة تنظر بقلق إلى إمكانية أن يتحوّل النزوح المؤقت إلى تغيير ديموغرافي دائم.
من جانب آخر، أشارت إلى أن "القدرة الاستيعابية في جنوب غزة استُنفدت تقريبًا، ما يعني أن أي موجة نزوح إضافية ستؤدي إلى كارثة إنسانية شاملة".
وبيّنت المصادر أن "المرافق الصحية المتبقية في غزة تعمل بأقل من 25٪ من طاقتها، ومع استمرار النزوح الجماعي فإننا أمام خطر انهيار المنظومة الصحية بالكامل، هذا لا يهدد فقط حياة الجرحى، بل يفتح الباب أمام تفشّي الأمراض المعدية".
وأضافت أن "هناك خشية جدية من أن يُستَخدم النزوح القسري كأداة تفاوضية، بمعنى أن تُربط عودة المدنيين إلى منازلهم بشروط سياسية أو أمنية، وهو ما يُعد انتهاكًا صارخًا للمبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني".
وأوضحت المصادر أن "نسبة الأطفال والنساء بين النازحين تتجاوز 70٪، والكثير منهم يعيشون الآن في مراكز مكتظة تفتقر إلى المياه النظيفة والتغذية الأساسية".
كما بيّنت المصادر أن "القيود المفروضة على دخول بعثات المراقبة الإنسانية إلى مناطق النزاع المباشر تجعل من شبه المستحيل توثيق الانتهاكات بشكل فوري، وهذا الغياب للشفافية يُعطي مساحة أكبر لارتكاب انتهاكات غير مرصودة".
وختمت بالقول: "إذا لم يتحرك المجتمع الدولي بشكل عاجل لفرض التزامات واضحة على الأطراف، فإننا نخشى أن يتحول النزوح الحالي إلى واقع دائم، التاريخ يُظهر أن حالات التهجير التي لم يتم تداركها في أشهرها الأولى عادة ما تترسّخ لعقود".
في الحالة الراهنة، بات النزوح في غزة هو القاعدة، حيث نزح أكثر من ثلثي السكان خلال الأسابيع الماضية من دون ضمانات للعودة، ولا بنى تحتية بديلة في الجنوب.
لم تعد "العودة إلى المنازل" مطلبًا سياسيًا بعيد الأفق، بل ضرورة بيولوجية عاجزة عن التحقق، ما يفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية، فيما إذا كان الوضع الحالي هو مشروع تهجير داخلي طويل الأمد، يتم تمريره عبر سلسلة من الإخلاءات المتتالية والتجويع الممنهج، وفق تعبير المحلل السياسي محمود أبو عدس.
وأضاف أبو عدس خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أن الهجوم البري الإسرائيلي على مدينة غزة لا يقتصر على هدف عسكري مباشر، بل يهدف إلى إعادة تشكيل المجال المدني للمدينة، فاستراتيجية الجيش تقوم على إفراغ الأحياء من سكانها عبر القصف المتواصل والأوامر بالإخلاء، لتتحول المدينة تدريجيًا إلى منطقة خالية من الحياة المدنية وقابلة لإعادة السيطرة الأمنية.
وأضاف أن هذه المقاربة تعكس ما يسمى بـ "إدارة الكثافة السكانية"، أي التعامل مع المدنيين باعتبارهم كتلة جماعية يُراد تفتيتها ونقلها إلى مناطق أخرى، بما يقلل من الضغط الديموغرافي في مناطق محددة، وبهذا المعنى، يصبح النزوح الجماعي جزءًا من التكتيك العسكري، وفق المحلل السياسي.
ويرى أبو عدس أن هذه السياسة تحمل خطورة بعيدة المدى، إذ لا تُغيّر فقط طبيعة الحرب الراهنة، بل تُعيد رسم خريطة المدينة اجتماعيًا وديموغرافيًا، وتفتح الباب أمام واقع جديد قد يجعل عودة السكان إلى منازلهم أمرًا معلقًا على حسابات سياسية وأمنية معقّدة.
كما لفت إلى أن ما يحدث في غزة اليوم "يُظهر انتقالًا واضحًا من استهداف الأهداف العسكرية إلى عسكرة الفضاء المدني نفسه، فالقصف لم يعد موجهًا فقط ضد بنى تحتية عسكرية، بل بات يستهدف طرق المواصلات، وشبكات الكهرباء والمياه، والمدارس والمستشفيات، بما يجعل البيئة المدنية غير قابلة للحياة، هذه السياسة تُستخدم كوسيلة ضغط جماعي، تجعل بقاء السكان في مناطقهم مستحيلًا عمليًا".
كذلك أشار إلى أن إسرائيل تتعامل مع الكثافة السكانية في غزة باعتبارها تهديدًا أمنيًا بحد ذاته، فالمشكلة بالنسبة لصناع القرار الأمني هناك ليست في "المقاتلين" فقط، بل في وجود بيئة اجتماعية كثيفة يمكن أن توفر لهم غطاءً أو دعمًا، وبالتالي، "يصبح تفتيت هذه الكتلة السكانية، ونقلها قسرًا إلى مناطق أكثر ازدحامًا وضعفًا، أداة لحرمان أي طرف مسلح من الحاضنة المدنية".
ويختم بالقول إن النزوح الجماعي، إذا استمر على هذا النحو، سيخلق عوائق هائلة أمام أي خطة لإعادة الإعمار مستقبلًا، "المناطق التي تُدمَّر وتُفرَّغ من سكانها قد تُصنَّف كمناطق عازلة أو مناطق أمنية، ما يمنع عودة أهلها ويحوّل ملف الإعمار إلى ورقة سياسية تفاوضية، بدلًا من كونه استحقاقًا إنسانيًا، هذا الاحتمال يجعل من كل موجة نزوح خطوة على طريق تثبيت واقع ديموغرافي جديد".