رغم استمرار العلاقات المتوترة بين الجزائر وباريس، فإن ملف التاريخ الاستعماري قد يكون ورقة تهدئة بدأت تبرز في مماطلة البرلمان الجزائري في طرح ملف تجريم الاستعمار، في مقابل ترخيص فرنسا للمرة الأولى بعرض فيلم وثائقي يكشف عن استخدام جيشها الأسلحة الكيميائية في حرب ثماني السنوات.
ولم يتردد رئيس مجلس النواب الجزائري إبراهيم بوغالي قبل نحو 3 أشهر في تأكيد تكليفه رسميًّا لجنة بصياغة مشروع قانون يُجرّم الاستعمار الفرنسي للبلاد (1832 – 1962).
وجاء ذلك في ذروة الخلافات بين الجزائر وفرنسا مؤخرًا، على خلفية قضية توقيف مؤثرين وما تلاه من طرد متبادل لموظفين وقنصليين، لكن في الأيام الأخيرة، قدم الطرفان إشارات إيجابية على التهدئة أوّلًا من باب الاقتصاد حيث استقبل الرئيس عبد المجيد تبون رودولف سعادة، رئيس شركة شحن فرنسية المقرب من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتمخض عن الاجتماع سحب مشروع ميناء الحمدانية الجزائري من الصينيين وتقديمه لرودولف سعادة.
ملف الاعتذار
لكن القضية الشائكة الأخرى التي تعتبر بالنسبة للجزائر حاسمة في ملف المصالحة مع الجانب الفرنسي، هي ملف الاعتذار عن الاستعمار، حيث تأخر البرلمان مجددًا مع قرب دخوله في عطلة صيفية عن عرض أمام النواب فكرة تجريم الاستعمار، بعدما أبدى حماسة كبيرة قبل أسابيع؛ ما أثار الكثير من التكهنات حول الأسباب.
ويرى أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة الجزائر عيسى المفلاح، أنه رغم حساسية الموضوع لدى الدوائر الرسمية الفرنسية التي تنكر ارتكاب جرائم جسيمة في الجزائر خلال فترة الاحتلال، لا تريد اللجنة البرلمانية المكلفة التراجع عن مهامها، وإنما الملف شائك ويعني حصيلة 132 سنة من الحقائق التاريخية المغيّبة التي يتعين جردها.
ولا يستبعد المؤرخ في تصريح لـ"إرم نيوز"، تأجيل النظر في الملف إلى غاية الدورة التشريعية المقبلة في سبتمبر/ أيلول، في إطار انتظار تليين المواقف وتلقي إشارات حول عودة اللجنة الجزائرية الفرنسية للذاكرة إلى الاجتماع مجددًا عقب تجميد مهامها أو إبداء الجانب الفرنسي نية حسنة في عملية إعادة الأرشيفات والقطع الأثرية ذات القيمة التاريخية والرمزية إلى الجزائر.
وفي رأيه تُعدّ مسألة استعادة الممتلكات الثقافية والتاريخية جزءًا من نضال طويل من أجل الاعتراف بالذاكرة والتاريخ الجزائريين، حيث تشمل المطالب أسلحةً ومدافع وأرشيفًا ورقيًّا وأشياء ذات قيمة تاريخية بالغة، مثل تلك التي نُهبت من قصر الداي، أحد رموز السيادة الجزائرية قبل الاستعمار، إلى جانب برنوس الأمير عبد القادر، ومصحفه، وسيوفه، ومدافعه.
استعادة الأرشيف
في المقابل، دعا المؤرخ الفرنسي، بنجامان ستورا، الذي يرأس لجنة الذاكرة المختلطة برفقة المؤرخ الجزائري محمد زغيدي، إلى اللعب على ملف الذاكرة كورقة يمكنها التخفيف من الاحتقان الحاصل بين البلدين.
وقال ستورا في تصريح صحفي لوسائل إعلام فرنسية، إن البلدين بحاجة إلى مبادرات قوية، وخاصة فيما يتعلق بقضية الاستعمار الفرنسي للجزائر في القرن التاسع عشر. ولكن اليوم، في رأيي، فإن النظر في إمكانية إطلاق مبادرات بشأن الذاكرة، قد يكون بمثابة بديل لاستئناف العلاقات السياسية، وهو أمر ضروري لحل قضايا الهجرة أو التأشيرات.
ويطالب المؤرخ بمواصلة هذا العمل المتعلق بالذاكرة من أجل التوصل إلى التهدئة، ويشدد على أهمية البناء على مبادرات سابقة في إشارة إلى اعتراف فرنسا بالمسؤولية في اغتيال الجيش الفرنسي لسياسيين ومناضلين جزائريين إبان الثورة التحريرية أو حرب ثماني السنوات (1954-1962)، على غرار كل من المناضل الفرنسي من أجل الثورة، موريس أودان، ومحامي الثورة علي بومنجل، والشهيد العربي بن مهيدي.
وتابع أنه "لا يمكن للفرنسيين حل علاقات دامت 132 عامًا بخطاب واحد، أو بمبادرة واحدة".
تليين الموقف الفرنسي
وكبادرة من جانب باريس على تليين موقفها تجاه ملف الذاكرة، عرضت قناة "فرانس 5" التلفزيونية الحكومية الفيلم الوثائقي "الجزائر، أقسام الأسلحة الخاصة"، الذي أكد استخدام الجيش الفرنسي للأسلحة الكيميائية خلال حرب الجزائر.
وعرض الفيلم أدلة عن استعمال الغاز على يد القوات الخاصة الفرنسية ضد المقاتلين والمدنيين الجزائريين، الذين لجؤوا إلى الكهوف، هربًا من ضربات الجيش.
ويُعد هذا الجانب التاريخي غير معروف نظرًا لصعوبة الوصول إلى الأرشيفات، التي لا يزال الكثير منها يُصنّف على أنه سري للغاية في فرنسا. وأُلغي الفيلم، الذي كان من المقرر بثه في الـ16 من مارس على قناة فرانس 5، قبل أن ترخص السلطات لعرضه يوم الـ8 من يونيو الجاري.