كشف إلغاء وتأجيل الزيارة المقررة للوفد السوري إلى بيروت عن "واقع معقد" ورهانات متبادلة بين البلدين، مع استمرار تشكل آفاق التفاهمات الممكنة.
فالمشهد لم يعد يقتصر على تفاصيل بروتوكولية تتعلق بتوقيت اللقاء أو جدول أعماله، بقدر ما بات يعكس تداخل الملفات العالقة بين البلدين، من ترسيم الحدود إلى قضية المعتقلين، مروراً بالضغوط الأمنية المتزايدة على جانبي الحدود.
وفي قلب هذا التعقيد، يبرز التناقض بين استعجال لبناني في البحث عن حلول سريعة تحصّن الداخل، وبين حسابات سورية متأنية تتعامل مع كل ملف بوصفه ورقة قابلة للتوظيف في سياقات أوسع.
وهكذا، تبدو لحظة التأجيل وكأنها محطة كاشفة؛ فهي من جهة تؤكد صعوبة الانتقال إلى تفاهمات مباشرة، لكنها من جهة أخرى لا تُغلق الباب أمام احتمالية مقاربات جديدة تُدار ببطء وتدرّج، ريثما تنضج الظروف الداخلية والإقليمية.
بين الأولويات والحسابات
وقالت مصادر سياسية لبنانية لـ"إرم نيوز" إنّ "العراقيل الأساسية أمام أي تقدم في ملف الترسيم تكمن في غياب إطار تفاوضي واضح يحدد جدول الأعمال وأولوياته".
وأفادت المصادر أن "بيروت من جهتها ترى أن الأولوية يجب أن تكون ضبط المعابر غير الشرعية ووقف التهريب الذي يرهق اقتصادها ويهدد أمنها الداخلي، بينما تتعامل دمشق مع الملف من زاوية أشمل، تربط فيها الترسيم بمسائل إقليمية ودولية؛ ما يعقّد إمكانية الاتفاق على خطوات عملية سريعة".
وأوضحت أنّ "ملف اللاجئين أصبح متداخلاً عضوياً مع الحدود، حيث تدفع القوى السياسية اللبنانية باتجاه عودة منظمة وواسعة للنازحين، مدفوعة بضغوط اقتصادية واجتماعية خانقة".
في المقابل، لم تُظهر دمشق حتى الآن استعداداً للتعاطي مع العودة كأولوية آنية، إنما تفضّل ربطها بترتيبات أوسع تتعلق بالتمويل الدولي وإعادة الإعمار؛ الأمر الذي يجعل من كل نقاش حدودي محفوفاً بشروط متبادلة غير مكتملة، بحسب المصادر.
وتشير المصادر إلى أنّ "لبنان يواجه معضلة داخلية مزدوجة؛ فمن جهة، هناك توافق عام على ضرورة ترسيم الحدود، لكن من جهة أخرى، تختلف القوى السياسية على كيفية إدارة الحوار مع دمشق، وما إذا كان ينبغي أن يتم عبر قنوات ثنائية مباشرة أو ضمن إطار دولي برعاية أطراف خارجية. هذا الانقسام يعكس هشاشة الموقف اللبناني ويضعف أوراقه التفاوضية".
ولفتت إلى أن "هناك تواصلاً محدوداً يجري فعلياً بين جهات أمنية في البلدين، يركّز على مواجهة تهريب المخدرات والسلاح، لكن هذه التفاهمات تبقى مؤقتة ومرتبطة بحوادث ميدانية أكثر مما هي جزء من رؤية شاملة".
في حين ترى مصادر دبلوماسية عربية أن "الدور الخارجي بات عنصراً ضاغطاً لا يمكن تجاوزه في ملف الحدود، ففرنسا تتحرك من زاوية تقنية–تاريخية، إذ تمتلك وثائق وأرشيفاً تقدمه على أنه مرجع يمكن البناء عليه في أي عملية ترسيم".
أما الولايات المتحدة، فتُركّز وفق ما تنقله المصادر على الجانب الأمني البحت، وتربط نجاح الترسيم بقدرة بيروت على وقف شبكات التهريب التي تمسّ مباشرة بالاستقرار الإقليمي.
وأشارت إلى أن "السعودية تلعب دوراً مكملاً، حيث تضع ثقلها السياسي في دفع بيروت ودمشق إلى فتح قنوات جدّية، معتبرة أن أي تسوية لبنانية–سورية حول الحدود ستُحتسب كخطوة استقرار إقليمي تُسجَّل في رصيدها".
عنصر محوري
ويُنظر إلى ملف ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا باعتباره عنصراً محورياً في معادلة الأمن والاستقرار، كونه يتقاطع مع قضايا استراتيجية تمسّ الداخل اللبناني والسوري على حد سواء، بحسب حديث المحلل السياسي اللبناني أسامة طربيه لـ"إرم نيوز".
وأضاف طربيه أن "التفاهم حول الحدود يُشكّل مدخلاً لتطبيق القرار 1701 وضبط اتفاق وقف النار، كما ينعكس مباشرة على ملفات شائكة مثل ملف النازحين السوريين، وشبكات التهريب، ومستقبل التعاون الأمني والاقتصادي بين البلدين".
ورأى أن "المعضلة تكمن في الصمت السوري، الذي يترك الباب مفتوحاً أمام احتمالات متناقضة، من إبطاء المفاوضات إلى الاكتفاء بخطوات جزئية مؤقتة، بينما يبدو لبنان مستعجلاً بفعل ضغوطه الداخلية وهاجسه الأمني".
واعتبر طربيه أن "نجاح الترسيم فرصة لإعادة بناء العلاقة الثنائية على أسس أكثر وضوحاً واستقراراً، فيما يظل الفشل أو التأجيل وصفة لاستمرار التوتر وتعميق حالة اللايقين على جانبي الحدود".
قنبلة سياسية مؤجلة
في سياق آخر، ورغم أن ملف المعتقلين السوريين في السجون اللبنانية يُطرح كقضية إنسانية، إلا أنّه تحوّل إلى "عائق سياسي" إضافي.
وقالت مصادر دبلوماسية عربية إنّ "دمشق تريد أن تجعل الملف بنداً رئيسياً على طاولة الحوار، فيما تخشى بيروت من أن يُستغل داخلياً لإرباك الحكومة".
وأضافت أنّ "الخلاف ليس على المبدأ؛ فالجميع يعترف بضرورة المعالجة، بل على الآلية، فيما إذا جرى التفاوض على إطلاق دفعات محدودة ذات طابع إنساني، أم يُفتح الملف دفعة واحدة بما يهدد بتفجير حساسيات داخلية".
وفي لبنان، يُستثمر موضوع المعتقلين السوريين كورقة في السجال الداخلي؛ أي خطوة نحو إطلاق سراح واسع قد تُفسَّر كخضوع لمطالب دمشق، بينما أي تجاهل قد يُستغل لتأليب الشارع، وفق حديث الباحث السياسي طلال خليفة لـ"إرم نيوز".
وأضاف خليفة أن "بيروت تجد نفسها عالقة بين ضغوط إنسانية وأمنية من جهة، وحسابات سياسية دقيقة من جهة أخرى. أما في دمشق، فإن إبراز قضية المعتقلين يُشكّل فرصة لإعادة فرض نفسها كمرجعية تفاوضية لا يمكن تجاوزها، بحيث تربط المعالجة بملفات أخرى مثل التعاون الأمني أو حتى ترسيم الحدود".
وأشار إلى أن "غياب إطار قضائي مشترك بين البلدين يُعقّد المسألة أكثر؛ فالمعتقلون موزّعون بين تهم جنائية وإرهابية وأمنية، وبعضهم بلا محاكمات مكتملة؛ ما يجعل أي تفاوض سياسي على الملف محفوفاً بالانتقادات الحقوقية".
ورأى خليفة أن "بقاء الملف معلقاً يهدد بتحويله إلى قنبلة سياسية مؤجلة، يمكن أن تنفجر عند أي لحظة تصعيد على خط العلاقات اللبنانية–السورية".
ورأى أن "العلاقة بين بيروت ودمشق تقف اليوم عند مفترق طرق، حيث يتنازعها أكثر من مسار محتمل".