ليست مجرّد حرب وضعت أوزارها، بل هي محو لمنطقة جغرافية بالكامل. فالحديث في قطاع غزة لم يعد يدور حول ترميم أو إصلاح، بل عن ولادة جديدة من تحت ملايين الأطنان من الركام؛ إذ إنّ حجم الدمار الهائل الذي خلفته الحرب الأخيرة جعل من عملية إعادة الإعمار تحدّياً غير مسبوق في التاريخ الحديث، يتطلب إرادة دولية استثنائية وتمويلاً يلامس التريليونات.
وبينما تسعى الوفود والفرق الهندسية لتقييم الكارثة، ترتفع التقديرات بشأن التكاليف والمدّة الزمنية اللازمة لإعادة الحياة إلى غزّة، حيث المهمّة معقدة تبدأ بإزالة الأنقاض، مروراً بتوفير مأوى آمن لمئات الآلاف من النازحين، وصولاً إلى بناء بنية تحتية متكاملة واقتصاد مستدام.
المهندس زهير العمري، وهو رئيس مجلس إدارة الهيئة العربية الدولية لإعمار فلسطين، كشف لـ "إرم نيوز" عن خطة عمل الهيئة الهندسية في القطاع، مشدّداً على أنّ الأولوية القصوى تنصبّ على حصر وتقييم الأضرار تمهيداً لحشد الدعم الدولي، مؤكّداً أنّ الهيئة باشرت عملها في القطاع منذ اليوم الأوّل بعد وقف إطلاق النار عبر فتح الطرقات وإزالة الأنقاض لتمكين الأهالي من التنقل بين مناطق القطاع والوصول إلى الأسواق والمشافي.
وأوضح أنّ خطة الهيئة القادمة هي حصر وتقييم الأضرار، قائلاً: سيكون لدينا نحو 320 فرقة تتألف من 700 مهندس مع كلّ الطواقم الفنية، وستصدر التقارير بعد نحو 3 أشهر من البدء.
وفي ما يتعلق بأزمة الإيواء، أكّد العمري أنّ الهيئة تسعى لتحضير وبناء مخيمات للإيواء المؤقت، مشيراً إلى أنّ دور الهيئة هو تجهيز البنية التحتية من خيام ووحدات صحية وطرق معقولة، وتأمين المياه الصالحة للشرب. وتابع: خطة الإيواء ستستغرق على الأقل 3 سنوات ومَنْ فقد بيته بالكامل لا يمكنه العودة إليه إلّا بعد هذه المدة.
الخلفية القانونية والملكية العقارية
ومن جانبه طرح الخبير الاقتصادي الأمريكي جوزيف بولزيمان، نموذجاً "ثورياً" لإعادة إعمار قطاع غزّة، يقوم على اتفاقية تأجير شبيهة بنموذج البناء والتشغيل والنقل المتبع مع الجانب الصيني في أفريقيا. وشدّد في حديث لـ "إرم نيوز" على أنّ نجاح هذا الحل مرهون بنزع السلاح التام عن القطاع وتوفير حوافز استثمارية ضخمة.
وفي سياق عرض نموذجه قال بولزيمان إنّ الحلّ كلّه يعتمد على وضع نموذج البناء والتشغيل والنقل (BOT) الذي نعمل به مع الصينيين في أفريقيا. وهو نموذج مباشر وبسيط، موضحاً أنّ الخطة تتطلب بالأساس إبرام عقد مع السلطة المحلية في ما يتعلق بالتراخيص.
وشدّد على أنّ ذلك يستثني حماس؛ لأنها لا تملك أيّ حقوق ملكية"، مضيفاً أنّ المستثمرين، وكما خُطط، سيأتون من دول مجلس التعاون الخليجي وإنشاء صندوق استثماري.
وفي حديثه عن مسألة ملكية الأراضي في القطاع، أوضح بولزيمان بالقول: حسب ما وجدتُه أثناء اطلاعي على السجلات التركية خلال العهد العثماني والسجلات البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى، فإنّ غالبية الأراضي في غزة هي أراضٍ عامة. وتابع: المصريون، على سبيل المثال، لم يمنحوا أيّ شخص حقوقا ملكية خصوصاً عندما كانت غزّة تحت إدارتهم، وفي الواقع، خلال اتفاقية السلام مع إسرائيل، عُرضت عليهم استعادة غزة، فقالوا: هي ملككم، بالتوفيق. إذًا، الفكرة الأساسية هي أن المستثمرين سيدخلون ويُمنحون حقوق الملكية.
مراحل إعادة الإعمار ونزع السلاح
وأكّد الخبير الاقتصادي الأمريكي أنّ نقطة البداية للمشروع هي التخلّص من المسلحين والقنابل وحل مشاكل البنية التحتية للأنفاق. ونسب استخدام المعدات اللازمة في هذه المرحلة إلى الصين، قائلاً: مصادر المعدات الأخرى ستأتي من الصين، لأنّهم معتادون على هذا النوع من الأعمال، وهم يتمتعون بكفاءة عالية. لذا، سيكون من السهل منحهم تراخيص لحفر القطاع بأكمله، بحيث لا تبقى أيّ قنابل قابلة للانفجار في أيّ مكان، مشيراً إلى أنّ الخطة تتضمن اختيار قطاعات حيوية للتطوير، وهي: السياحة، الزراعة، والتكنولوجيا المتقدمة. وقال إنّ الخطة تهدف إلى إعادة هيكلة المنطقة بالكامل على مدى 50 عاماً على الأقل بتكلفة مالية تتراوح بين تريليون وتريليوني دولار.
شرط الاستثمار.. نزع السلاح الكامل
وفي ما يخص الحافز الرئيسي للاستثمار، أكّد بولزيمان ضرورة انعدام السلوك العسكري تماماً؛ إذ لا يمكن أن يكون هناك مسلحون، وحماس الآن خارج المعادلة؛ لأنّ ذلك سيُدمّر حوافز المستثمرين، ومن ثم فإنّ نزع السلاح من المنطقة سيجذب المستثمرين لأنّها عملية مربحة للغاية، سواء في مجال السياحة أو الزراعة أو التكنولوجيا.
عن دور مصر
وعن دور مصر في عملية إعادة الإعمار، شاركت نقابة المهندسين المصريين كواحدة من بين الجهات المُكلفة بإعادة الإعمار ، بخطة استشارية تفصيلية. وقال نقيب المهندسين المصريين طارق النبراوي لـ "إرم نيوز" إنّ نقابة المهندسين في مصر جاهزة لقيادة العملية الهندسية والاستشارية لإعادة إعمار قطاع غزة، كاشفاً عن خطة تفصيلية وميدانية تبدأ بمرحلة الإيواء السريع عبر إقامة مدن صغيرة مُجهزة.
وقال النبراوي: كان لا بد أن يكون لنا موقف مع إعمار غزة، وقد تمّ تشكيل لجنة على أعلى مستوى من الخبرات، موضحاً أنّ النقابة عقدت مؤتمرين موسعين للاستفادة من الخبرات المحلية والخارجية، واستمعت إلى آراء زملاء فلسطينيين في غزّة وخبراء متخصصين في الأمور الهندسية كافة.
وشدّد على أنّ دور النقابة هو دور هندسي استشاري متعمق يتمثل في إعداد الدراسات المستفيضة العملية التي هي جاهزة للتنفيذ فعلاً في إطار الإعمار، مشيراً إلى أنّ الدراسات التي أعدّتها النقابة جاهزة وتتمحور حول التالي، أوّلاً الإيواء السريع للغزيين المشرّدين، وهي خطة تمتد على نحو سنة ونصف السنة، والنقابة حدّدت أماكن لإقامة مدن صغيرة مجهزة بالحد الأدنى من وسائل المعيشة المحترمة والإنسانية، تشمل أماكن الإيواء والمخابز والمستشفيات الميدانية والمرافق الأساسية كالماء والصرف الصحي والكهرباء والمدارس...
وأضاف: ثانياً هناك خطة أخرى لبدء الإعمار الرئيس للبنية التحتية، تشمل خطوط الكهرباء، خطوط المياه، خطوط الصرف، محطات التحلية ومحطات الرفع"، متوقعاً أن تستغرق هذه المرحلة نحو 3 سنوات.
وأكّد نقيب المهندسين أن الخطط الموضوعة "تستهدف أن تكون هذه الإنشاءات في أماكن مناسبة جداً ولن تُبنى في أي مكان وفي أي جزء، مشدّداً على أنّ التصميمات جاهزة لمنشآت تستطيع أن تتحمل أنواعاً من أنواع الضرب الذي حصل في المرّات السابقة، مع مراعاة ظروف البيئة وظروف الفكر الفلسطيني لأهل غزة".
تاريخ غزة كُتب دائماً بين هدمٍ وإعمار، لكن الإعمار هذه المرة لا يُقاس بالإسمنت والحديد، بل بمن يملك حقّ الحلم والعودة إلى بيتٍ لا يُقصف مجدداً.