إذا كنت ترغب في تكوين فكرة مكثفة عن سوريا، فما عليك إلا زيارة مقهى الروضة بدمشق. هذا المكان الذي يشهد يومياً حوارات ساخنة حول القضايا الراهنة ومستقبل البلاد، بدءاً من شكل الدولة المنتظرة، هل ستكون مدنية أم محافظة؟ إلى أولويات المرحلة، من الاقتصاد إلى الأمن.
وتأسس مقهى الروضة في عام 1937، لكن دوره كحاضنة ثقافية تراجع خلال 54 عاماً من حكم الأسد، حيث غُيّبت الحياة السياسية خارج الإطار الذي رسمه الحزب الحاكم.
ورغم وجود مقاهٍ شهيرة أخرى في دمشق، مثل "الهافانا"، و"فندق الشام"، و"الكمال"، إلا أن الروضة، الكائن في شارع العابد، استطاع أن يجذب شريحة واسعة من المهتمين بالشأن العام.
في المقهى، تتجاور طاولات الليبراليين مع المحافظين واليساريين وأصحاب الاتجاه القومي، ورغم سخونة النقاشات، يسعى رواد المقهى للحفاظ على الودّ، حتى في ظل الخلافات.
يقول الناشط المدني ياسر محمد لـ"إرم نيوز": "انقلب المشهد تماماً في المقهى، فنحن اليوم نتحدث بالسياسة علناً ونناقش القضايا العامة دون خوف". منذ سقوط النظام في 8 ديسمبر/ كانون أول الماضي، أصبح المقهى مركزاً للحوارات الفكرية والاحتفالات التي تبشر بمرحلة جديدة، رغم حضور بعض المتوجسين من المستقبل.
لم يعد السوريون يتهامسون عند الحديث في السياسة، كما اختفت عبارة "الحيطان لها آذان". أصبحت الطاولات المتجاورة في المقهى مكاناً يتبادل فيه الرواد النقاشات، وغالباً ما يتدخل شخص لتصحيح معلومة أو المشاركة برأي، بعد طلب الإذن.
وتقول يارا العبد: "ما يميز هذا المكان أنك تستطيع المشاركة في أي حديث، حتى لو لم تكن تعرف المتحاورين، فالأفكار هنا أشبه بملك عام".
بينما يفضل الأدباء والفنانون الجلوس في الفسحة السماوية، يتجه السياسيون وناشطو المجتمع المدني إلى الصالة الداخلية ذات السقف الخشبي المقبب. ومع ذلك، يصعب فصل الثقافة عن السياسة في هذا المقهى، حيث غالباً ما تتداخل المجموعات وتتبادل أماكنها حسب الموضوع المطروح.
ويختار ناشطو المجتمع المدني مقهى الروضة مكاناً للاجتماع بهدف المشاركة في بناء الدولة وإيصال رؤاهم للمسؤولين. أما المثقفون والأدباء، فيراقبون المشهد بهدوء، منتظرين وضوح الرؤية.
رغم ارتفاع أسعار المقهى مقارنة ببقية الأماكن، إلا أن جاذبيته وموقعه الاستراتيجي، إضافة إلى كونه مركزاً للحوار والنقاش، تجعل الكثيرين يختارونه.
خلال الأيام الماضية، استضاف المقهى عدة اجتماعات حوارية، أبرزها لقاء مع ياسين الحاج صالح، المحامي والمثقف المعروف بمواقفه خلال الثورة السورية، والمحامي عبد الحي السيد. تناول اللقاء موضوع "العدالة والصفح في سوريا اليوم".
كما يُعد الروائي خليل صويلح، الحائز على جائزة الشيخ زايد للرواية عام 2018، من أبرز رواد المقهى. يمكن للزوار مناقشته حول السرد العربي، أو متابعة عشاق "الأراكيل" في الفناء الخارجي. أما داخل المقهى، فتتصدر السياسة والإعلام المشهد.
ويمثل مقهى الروضة نموذجاً مصغراً لحال السوريين، حيث يتجاور عشاق لعبة النرد مع المهتمين بالشأن العام، ولاعبي الورق مع الباحثين عن التسلية. يقول الدكتور أحمد العسيلي، العائد حديثاً من فرنسا: "لا أصدق أنني أشرب القهوة الآن في مقهى الروضة بدمشق".
وبالنسبة للمثقفين القادمين من خارج دمشق، فإن زيارتهم للعاصمة لا تكتمل دون المرور بمقهى الروضة، حيث يمكنهم رؤية الأصدقاء بلا موعد مسبق. في هذا المكان، تُطلق المشاريع الفنية والإعلامية الجديدة، وتجتمع الأفكار التي تختزل حال سوريا.