فقدت مقاهي دمشق التاريخية، سمعتها كمكان مفضل للسياسيين والمثقفين والفنانين ورجال الصحافة الذين كانوا يواظبون على الاجتماع في مقاهي "الروضة والهافانا والبرازيل والكمال والنوفرة".
وتراجعت مكانة هذه المقاهي بسبب الحرب والهجرة والوضع الاقتصادي الصعب الذي يعصف بالبلاد منذ أكثر من عشر سنوات، بالإضافة إلى افتتاح أماكن كثيرة باتت تجذب الجمهور في الشام القديمة وغيرها من الأماكن.
ويقول المصور والفنان جورج عشي لـ"إرم نيوز": "لقد اختلفت الظروف ورحلت الشخصيات الثقافية المهمة التي أعطت هذه الأمكنة رونقها الخاص. لكنني أواظب على الحضور إلى مقهى الهافانا للقاء الأصدقاء القدامى والمحافظة على الطقوس التي اعتدنا عليها".
ويعتبر "الهافانا" الواقع وسط المدينة، من أقدم مقاهي دمشق، فقد تأسسس عام 1945 واشتهر باستقبال شخصيات عربية شهيرة مثل بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي والجواهري وفريد شوقي ومحمد عبد المطلب ومحمود المليجي...وسواهم.
وكاد المثقفون أواسط الثمانينيات، يفقدون مقهى الهافانا عندما اشتراه أحد التجار وأراد تحويله إلى محل ألبسة، لكن وزارة السياحة السورية قامت باستملاكه نتيجة احتجاجات المثقفين على ضياع هذا المكان التاريخي المهم.
ويقع مقهى "الروضة" في منطقة حيوية بالقرب من البرلمان السوري، ويمتد عمره إلى أكثر من ثمانين عاماً، وقد اشتهر باستقبال الفنانين والشعراء والإعلاميين، لكن غلبت عليه الصفة الشعبية خلال السنوات السابقة.
وتلعب الأسعار دوراً مهماً اليوم في اختيار المثقفين للمقهى الذي يرتادونه. ويعتبر مقهى "الكمال" الأنسب سعراً وراحة نظراً لاحتوائه على صالة شتوية مغلقة ومكان صيفي مفتوح.
ويقول الشاعر صقر عليشي: "أجلس في مقهى الكمال نظراً لهدوئه مقارنة بالمقاهي الأخرى، فالصالة هنا واسعة ولا يعاني الرواد من الضجيج المرتفع الذي يملأ المقاهي الضيقة والمزدحمة".
وتعتبر لعبة "طاولة الزهر" و"ورق الشدّة" و"الأركيلة" من الظواهر التي طغت على النقاشات الثقافية في المقاهي، بعد أن كانت تلك الأماكن تشهد اجتماعات السياسيين وجدل الكتّاب وحوارات الفنانين، حتى سُمّي مقهى الروضة بمقهى البرلمان الثقافي السوري في فترة من الفترات.
ويتحسّر من تبقّى من الرواد القدامى على مقاهي دمشق القديمة وسمعتها التي ضربت الآفاق عربياً، ويلقون باللوم على التقدم التكنولوجي الذي خفّف الألفة الحية بين الناس، إضافة إلى تراجع الاهتمام بالثقافة والانشغال بالوضع الاقتصادي الصعب.
واشتهر مقهى "البرازيل" الواقع في الطابق الأرضي من فندق الشام، برواده النخبة وعلى رأسهم الشاعر محمد الماغوط وزكريا تامر.
وكان الماغوط يوزع جلساته بين مقهى "أبو شفيق" في منطقة الربوة بجانب نهر بردى صيفاً، ومقهى "البرازيل" القريب من منزله بالقرب من دوار يوسف العظمة، وسط العاصمة. لكن أسعار الخمس نجوم هنا، لا تشجع الكثيرين ممن يفضلون مقهى الهافانا أو الروضة الواقعين على بعد مئة متر من "البرازيل".
ويؤكد المصور والفنان جورج عشي، وهو من مؤسسي نادي التصوير الضوئي في سوريا، أن أرشيفه الممتلئ باللقطات النادرة، يثبت أن الزمن الماضي كان أغنى بالأحداث الثقافية والشخصيات المؤثرة التي ربما لا تتكرر للأسف.
وتعاني مقاهي دمشق اليوم من تغيّر الرواد واختلاف الفئات العمرية وتبدل الاهتمامات، بسبب قلة فرص العمل والغلاء الذي بات يشكل عبئاً على المثقفين بالدرجة الأولى.