تعود جذور الرغبة في الاستماع إلى القصص والذهاب بعيدا مع الخيال في شهر رمضان الكريم إلى فن بدأ قبل أكثر من مئة عام، وقام على الحكاية ببطل واحد وهو "الحكواتي".
وأصبح الحكواتي مع الوقت، مؤنسا لليالي رمضان، إذ يقوم بسرد القصص في المنازل والمحال والمقاهي، فيحتشد الناس حوله، ولا يكتفي بقص القصص بل يقوم أيضا بتجسيد شخصياتها بالحركة والصوت؛ ما يدفع الجمهور بحماسة للتفاعل.
والحكاء أي "الحكواتي" شخصية لها خلفية ثقافية، كما يمتلك موهبة فن القص بالمد والإطالة بالقصة، بحيث تتحول إلى مسلسل ليلي يمكن له أن يغطي أيام شهر رمضان.
مسرح الحكواتي
جسدت المقاهي الشعبية على مدى عشرات السنين، مسرح الحكواتي، حيث يروي قصصا من السير الشعبي أمام جمع من الناس.
ويقول محمد خير كيلاني لـ"سانا" - وقد كان حكاء على مدى 30 عاما في السهرات الرمضانية في حمص – إن المقاهي الشعبية كانت مركزا للحكواتي وارتبطت حكاياته بالشهر الفضيل ويتذكرها الكبار من أبناء المدينة عندما كانوا يحتشدون حوله في المقهى، يتابعون باهتمام كل حركاته وتفاعله مع القصة وشخصياتها.
ويضيف أن الحكواتي كان شخصية تمثل وسيلة من وسائل التسلية الجماعية والتثقيفية لما تتناوله من قصص بين الواقع والخيال من بطولات وتعزيز القيم الأخلاقية والسلوكيات الإيجابية، لافتا إلى أن من أشهر الحكايات المعروفة، عنترة والزير سالم وذات الهمة وتغريبة بني هلال وغيرها.
ازداد الاهتمام بالحكاية تدريجيا في القرن الثاني الهجري، خاصة في العصر العباسي، حيث ترجم ابن المقفع كتاب "كليلة ودمنة"، ليشهد القرنان الثالث والرابع بعدها اهتماما ملحوظا بها.
الأصل والجذور
تشير معظم الدراسات والأبحاث في مجال التاريخ إلى أن الشرق غني في أصله بالحكايات الشعبية، وتختلف الآراء بين من يعتبر الشرق العربي منبع الحكاية وأصلها كما عند البابليين والأشوريين والفراعنة، وبين من يعد بلاد فارس والهند أصل الحكاية، قبل انتقالها إلى بلاد ما بين النهرين، بحسب كتاب "الحكاية الشعبية بين الماضي والحاضر" لمصطفى الصوفي.
وتحتشد كتب الطبري والأصفهاني والمسعودي وابن كثير وآخرين بالكثير من الحكايات التي عرفت في العصر الجاهلي وما تلاه، إذ امتزجت فيها المأثورات وأخبار الملوك، فضلا عما أنتجته الذاكرة الجماعية من أخبار ووقائع.
بدأ الاهتمام يزداد بالحكاية تدريجيا في القرن الثاني الهجري، خاصة في العصر العباسي، حيث ترجم ابن المقفع كتاب "كليلة ودمنة"، ليشهد القرنان الثالث والرابع بعدها اهتماما ملحوظا بها.
وذكر المؤرخ حمزة الأصفهاني أنه كان في عصره من كتب السمر (الحكاية) المتداولة ما يقرب من سبعين كتابا، كما ظهرت كتب حول قصص "السندباد" و"السنور والفأر" تزامنا مع دخول حكايات "ألف ليلة وليلة" في الموروث العربي.
مهنة لا تموت في دمشق
عاد الحكواتي رشيد الحلاق إلى الحارات الدمشقية مع إعادة إحياء هذه المهنة في مقهى "النوفرة" عام 1990، بطلب من صاحب المقهى وأرباب الشعائر الدينية، حيث تقرر تقديمها بعد صلاة المغرب حتى أذان العشاء على أن تقدم في رمضان بعد صلاة التراويح.
ومع 1990، بدأ الحلاق مسيرة الحكواتي واستمر حتى عام 2014 في ذات المقهى، وكان يقدم قصصا تجمع بين العبر والتوعية، كان أبرزها قصة الملك الظاهر بيبرس وعنترة بن شداد وغيرها.
ويقول شادي الحلاق الابن عن والده الحكاء لـ"سانا"، إن السياح كانوا يقفون دائما في المقهى لحضور الحكواتي والتقاط الصور التذكارية معه، لافتا إلى أن أعمال والده رشيد تجاوزت الحدود السورية حيث شارك بمهرجان جرش بالأردن عام 1992 وحتى عام 1995 على مسرح الصوت والضوء، وكانت له مشاركات عديدة بالبحرين وأبوظبي ولبنان ومهرجان دمشق عاصمة الثقافة العربية عام 2009 ومهرجانات المحافظة للثقافة والفنون بساروجة في دمشق، وشارك مع لجنة اليونسكو لمشروع "ميدليهيرت" لحماية التراث لبلدان البحر الأبيض المتوسط عام 2010.
وجمع شادي الحلاق كتبا مكتوبة بخط اليد وأعاد ترميمها مثل قصة ألف ليلة وليلة وسيف بن ذي يزن، وقد قام المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأوسط بطباعة قصة الملك الظاهر بيبرس مع مساعدة والده بشرح بعض الكلمات ومعانيها.
ويضيف الحلاق الابن أنه اكتشف كنزا أثريا خلال عملية البحث، عبارة عن كتب بلغة مشفرة واستنتج لاحقا أنها "خيمة كركوز" و"عواظ السورية" المندثرة، حيث شرح له والده كيفية تقديمها وصنعها من الجلود والألوان وطرق التحريك وأسماء القطع وصفاتها، ليقدم أول عرض لخيال الظل بحضور مجموعة ممن عاصروا هذا الفن.
وصنفت اليونسكو فن الحكواتي على قائمة الصون العاجل بالتعاون مع الأمانة السورية للتنمية، وقدم شادي الحلاق ورشة عمل لتعليم الطلاب والطالبات أصول هذه المهنة.
تشير المحامية رنا بكباشي إلى أن شخصية الحكواتي عودة إلى إحياء التراث اللامادي، ويضفي جوا من المحبة والتآلف يساهم في الابتعاد عن ضغوطات الحياة.
فن شامل
يؤكد الحكواتي عمار جراح لـ"سانا" أن شخصية الحكواتي تاريخية معروفة من التراث اللامادي المتوارث من جيل إلى جيل، وهو يعمل كحكواتي منذ عام 2000 وفي كل عام من شهر رمضان، يرتدي هذه الشخصية لحمايتها من الاندثار، مثلها مثل خيال الظل (كركوز وعيواظ)، وصندوق الدنيا لتبقى في الذاكرة.
ويثابر الجراح على تطوير هذا الفن ليتناسب مع رغبة الناس، الحاضرون في المطاعم والمقاهي التراثية، فيختار قصصا محلية تحمل الفكاهة والفائدة للجمهور، بالإضافة إلى وجود فقرة عزف موسيقي، وتقديم فقرة المسحراتي.
ويذكر طارق علي، أحد المستمعين لهذا الفن، أن اختيار وجود الحكواتي لقصص شعبية يعيد إحياء الزمن الجميل، ويلفت أنظارهم نبرة صوته التي تتعالى وتنخفض تبعا لسير الأحداث، إضافة إلى حماسة أحداث قصته وهو يجلس على كرسيه ويحمل في يده كتاب القصص وفي الأخرى يحمل عكازه ويلوح بها في كل الجهات.
وتشير المحامية رنا بكباشي إلى أن شخصية الحكواتي عودة إلى إحياء التراث اللامادي، ويضفي جوا من المحبة والتآلف يساهم في الابتعاد عن ضغوطات الحياة، إضافة إلى جذب جيل الشباب للاستماع إلى بطولات عنترة وأبي زيد الهلالي وتعلم قيم الشهامة والأخلاق العربية.
حرفة اقتصادية وتراثية
لا يعد الحكواتي مهنة تتعلق بالفن فقط، بل تحمل أبعادا اقتصادية في المجتمع السوري، بدءا من زي الحكواتي، الذي يتضمن الطربوش الأحمر الغامق على الرأس وصدرية مصنوعة من نول يدوي، وسروالا شاميا طويلا، والزنار وهو عبارة عن لفة من قماش الدامسكو، والبروكار الدمشقي، إضافة إلى شال على الأكتاف من الحرير، وجاكيت عربي يسمى "الدامر" مطرز يدوياً وليس له أزرار يتبع تطريزة السروال ذو اللون الأسود، وهو مبطن من الحرير لونه أسود كذلك.
ويجلس الحكواتي في المقاهي العامة على كرسي يمثل ما أنتجته سواعد الحرفيين الدمشقيين من خشب محفور وموزاييك مطعم بالصدف.
تقول رئيسة مجلس إدارة جمعية الوفاء التنموية السورية رمال صالح، إن هذه التطريزات والتفاصيل تمثل حرفا تراثية تقليدية تحمل الطابع السوري المميز.
وتضيف أن هذا التراث أضحى مشروعاً تنموياً لعائلات سورية كثيرة من خلال مشروع (بيت الشرق للتراث) الذي أطلقته الجمعية بدعم من الأمانة السورية للتنمية والذي يضم 13 حرفياً من الحرفيين المتميزين.
وتلفت صالح إلى أن صناعة "الأغباني" أيضاً من أهم مشاريع الجمعية التي تأسست بنهاية عام 2017..
أما البروكار الدمشقي، فتنوه صالح أنه من أدق وأفخم الأقمشة على مستوى العالم، إذ ينسج من خيوط الحرير الطبيعي المستخلصة من شرانق دودة القز ويطرز على النول اليدوي وتضاف إليه الخيوط الذهبية والفضية، وتعرف دمشق بأنها حاضنة هذه الصناعة التي تعتبر من أقدم الصناعات السورية، ويحتاج إنتاج متر واحد من البروكار الدمشقي من 8 إلى 10 ساعات من العمل المتواصل.
وتؤكد أن البروكار الدمشقي يعكس من خلال الرسومات ثقافة المنطقة وطبيعتها وتاريخها ومن خيوطه نسجت أجمل اللوحات والنقشات مثل العاشق والمعشوق وصلاح الدين وروميو وجولييت والوردة الشامية والياسمين الدمشقي، ويتميز البروكار الدمشقي بأنه باهظ الثمن لصعوبة استخلاص الحرير الطبيعي ووجود خيوط الفضة والذهب بداخله.