تؤمن الروائية السورية لينا هويان الحسن أن الأدب مساحة تحتمل كل أنواع البهلوانات اللغوية والسردية، معتبرة أن التاريخ العربي العظيم هو مشروعها لإعادة كتابته بقالب روائي سردي.
"إرم نيوز" التقى الروائية لينا، وأجرى معها هذا الحوار:
الكاتب ابن بيئته كما يقولون، وأنتِ الروائية السورية، كيف وكم أثر المكان في أعمال لينا؟ دمشق مثالًا؟
تأثرت بعالمين متضادين، دمشق، مدينة المرونة والنعومة والتناغم، والتدبير والديباج والحرير، مدينة الذكاء الحضاري المذهل لمكان يعدّ من أوّل وأقدم الأمكنة المأهولة في العالم!.
وهنالك القطب الآخر، البداوة، الصحراء، القسوة، والسراب، الدروب الواهية، والآفاق المتلاعبة والواحات الوهمية، النساء القويات، الصاخبات، نساء يسلخن جلود الأفاعي ببساطة أن تغلي امرأة الشام قهوتها!.
عشتُ بين نساء يتميزن بعزم حاسم، لا يعرفن المزاح، وعلى الضفة الشامية عشت بين نساء ناعمات مرنات متلاعبات يتقنّ لعبة الأنوثة، تعايشت دمائي الصحراوية، وقلبي الصخري، مع الطباع الشاميّة التي تطبّعت بها، وهي الطباع التي منحتني نعمة التعامل مع البشر، فلو بقيتُ على ما تشربتّه من البداوة لتزعمتُّ جيشًا!
تغوص أعمالك بالنفس البشرية وتجسد أشكال وأدوار المرأة، هل بطلاتك انعكاس لشيء بدواخلك؟ سلطانات الرمل مثلاً؟
كيف يتشكل داخلنا!؟ إنه خلاصة جيناتنا، دماء مسافرة في قنوات لم يدركها العلم، إننا ألغاز مخيفة، نولد ونتكون من دماء تحمل ذاكرات كثيرة، أفكّر أحيانًا: كم امرأة بداخلي!؟ من أنا بالضبط لأكتب سير نساء جارحات في التاريخ القبلي!؟ كيف أبحتُ لنفسي كتابتهن وإعادة صياغتهن، نعم، بعض النساء من ذهب، ويُعاملن بذات الطريقة للحصول على ملامحهن الأخيرة.
الرجال غالبًا هم أدواتٌ للنساء، ومن يقرأ التاريخ لن يخالفني الرأي. بل الرجال هم الدمى المفضلة بأيدي النساء. وأنا شخصيًّا كنتُ دائمًا محرّكة العرائس على مسرح حياتي
كنتُ دائمًا أريد أن أفهم أحداث حياة امرأة اسمها "منوى" إنها خالة أمي، و" عنقاء- ليز" هي ابنة عمّ أبي، و"فَكرى" هي أيضًا قريبتنا "استعنت بسلطانات مثل "حمرا الموت" و "قطنة الكنج" وهما شخصيتان تم تداول حكاياتهما قبلي في كتب رحالة ومستشرقين، وسمعت عنهما شفاهيًا. هكذا ركّب ذهني رواية ( سلطانات الرمل) انتشلت (سلطانات) القبيلة المنسيات، وصغت نساءً يتحركن على الورق.
دعينا نبقى في موضوع المرأة في أعمالك خاصة وأنها غالباً ما تخطف عناوين أعمالك.. مثل روايتك الأخيرة حاكمة القلعتين، لماذا ؟ هل هي محاولة في مواجهة الذكورية الشرقية، هل ثمة جرح غائر في صدر لينا كان خلفه رجل؟
لم أقتنع يومًا أنّ الرجال حكموا بحق!. هذا رأيي ولا أفرضه على أحد، الرجال غالبًا هم أدواتٌ للنساء، ومن يقرأ التاريخ لن يخالفني الرأي. بل الرجال هم الدمى المفضلة بأيدي النساء. وأنا شخصيًّا كنتُ دائمًا محرّكة العرائس على مسرح حياتي. ومن يلّعب الدمى ويتقن إمساك الخيطان لا يتعرض لخدش دبوس. محرّك الدمى هو البطل في كل حالاته.
اخترت عنوان (حاكمة القلعتين) استلهامًا لملكة قتلت أربعين بنتًا لتحافظ على جمالها، ودفنت البنات في قلعتين (حلبية وزلبية) وهما قلعتان بنتهما زنوبيا على ضفاف الفرات.
أحبّ مفردة (الحكم) لأنها تربط الحكمة بالسلطة، فليس كل ذي منصب أو قلب هو حاكم بالفعل، وما أقلهم، والنساء الحاكمات هنّ نافرات في التاريخ فليس كل يوم تتحالف الدماء والسلالات والجنيات لتنتج ملكة حقيقية يتذكّرها التاريخ!.
هناك جنوح من الشعراء نحو الرواية، حتى بتنا نقرأ روايات بلغة شاعرية وشعرية، إلى أي مدى تتفقين مع ذلك؟
الأدب هو مساحة تحتمل كل أنواع البهلوانات اللغوية والسردية، ويمكن للكاتب أن يكتب الكثير من الرواية والقليل من الشعر. ويمكن العكس، لدي تجربة شعرية واحدة بعنوان ( نمور صريحة) صدرت في 2011 عن وزارة الثقافة السورية. ربما يكون الشعر جذّاباً للروائي ويدفعه لكتابة نصّ مؤجل. وكذلك يمكن للرواية أن تستجيب لأفكار الشاعر ونجده قد كتب رواية.
غالباً ما تعيد لينا إحياء أساطير عربية في أعمالها، هل تشعرين بالحنين.. حنين التذكر والذكريات؟
تاريخنا العظيم، هو "مشروعي". علاقتي بالماضي، قوية لأن الحاضر لا يعجبني. لم أستطع أن أخلق صلة مع الواقع، مع (سوريا) اليوم. قبل قليل قلت لك نحن (جينات) وأنا أنتمي لقبيلة تغلب، ومجازًا يمكنني القول إنّ جدي "كُليب" ملك العرب الذي أراد أن يؤسس دولة في زمن مبكر من التاريخ، فقتلوه. وبقايا تغلب استطاعوا تأسيس دولة الحمدانيين في حلب.
دهشتُ منذ مدة وأنا أقرأ في (تاريخ العرب) لجواد علي أنّ "كُليب" كان يأمر قادته بقوله: (إذا غشيكَ العدو فأوقد نارين) نعم، ثمة تقليد في قبيلتنا تميزت به عندما كانت تشعر بالخطر، توقد نارين، واليوم في بيوتنا الإسمنتية المدنية الحديثة، نوقد نارين أو شمعتين، واحدة لنجم الشمال وأخرى لنجم سهيل الجنوبي. بنيتُ عالمي بإصرار بدوي، كتبتُ بقلم الشغف الخام. وكل ما ذكرته في ( حاكمة القلعتين) هو بوحٌ متأخر.
آخر أعمالك رواية "حاكمة القلعتين" التي حصدت ثناء النقاد وأصداء إيجابية لدى القراء، ضعينا في أجواء روايتك تلك؟
القارئ هو الحصاد المثمر للكاتب. هذه قاعدة تبنيتها منذ العلاقة التي بدأت بقوة مع القرّاء مع روايتي (سلطانات الرمل) الكاتب يكون أو لا يكون، من خلال قلمه، إن لم يشتعل حضور الكاتب بغتة مثل شرارة حبّ جارف لا تحدث علاقة بينه وبين الكاتب.
اعتاد أدباؤنا التعالي على الأدب الذي يتحرك على بساطه "سحرة ومردة وجان"
"سلطانات الرمل" منحتني تلك الشرارة القدرية العشقية مع القارئ، وبعدها بدأت سيرة (التراكم). لا يزدهر الروائي دون نتاجه الدائم والسنوي. وقلّة من أدباء العرب من تحمس لأدب (الميثوبيا) أي (صناعة الأسطورة) وهو طراز أدبي جديد وتوقعتُ أن لا يكون مرحباً به من النقاد أصحاب الذائقة الصخرية، وبالفعل من تحمس لروايتي هذه كان القارئ أولًا.
وغداً، من المعلوم أن حركة النقد العربية بالعموم يعوزها التجديد. و"حاكمة القلعتين" بدت كنصّ نافر أكثر من غيره في بقية أعمالي بسبب موضوعها (اللانمطي) وخالفت ما يُكتب عربيًّا.
اعتاد أدباؤنا التعالي على الأدب الذي يتحرك على بساطه "سحرة ومردة وجان"، حاولت انتشال هذا الطراز من الأدب (الميثوبيا) مما لصق فيه من اعتياد شعبوي تسويقي لا يُحسب حسابه في عالم الأدب الجاد.
وتلقى القارئ التجربة بآراء إيجابية، ومشجعة، وحرّك الفضول لديه، وكما أعلن سيد الرواية ماركيز يوماً أن "كل فضول هو حب".
إذاً، وقع القارئ في غرام "حاكمة القلعتين"، بينما ألقت الرعب في قلوب النقاد، أقصد النقاد المتيبسين ولا حياة في أقلامهم وأفكارهم، مثلًا الناقدة الشابة كنانة عيسى استطاعت مواكبة فكرة نصّ (الميثوبيا) والكتابة عن الموضوع بدراية ومعرفة وإحاطة تامة بعالم النقد. أراهنك أنّ معظم من يحكّمون في الجوائز وينظّرون في الأدب لم يسمعوا بـ "الميثوبيا"