ترامب يعلن أنه سيوجّه "خطابا إلى الأمة" الأربعاء

logo
ثقافة

"أغنية الغراب".. فيلم يكشف صراع الأيديولوجيات في السعودية مطلع الألفية الثالثة

يقدم المخرج السعودي محمد السلمان أحداثاً اجتماعية جدلية تحمل النقد لسلوكيات المجتمع، وتصنع المفارقة بين الذات والنسيج الاجتماعي عبر صراعات فكرية مختلفة في حقبة بداية الألفية الثالثة في المملكة العربية السعودية، من خلال فيلمه الروائي الكوميدي "أغنية الغراب" الذي تم تصويره في العاصمة الرياض، وقد تم ترشيحه من قبل المملكة لخوض سباق العالمية، في مهرجان أوسكار 2023.

وتدور أحداث الفيلم حول شخصية ناصر، ويجسدها عاصم العوا، إذ يعاني البطل من تكوين داخلي مهتز،  وطبيعة تصل إلى حد السذاجة في التعامل مع المجتمع المحيط، ولا يمتلك الدعم من والده، ويعاني بعد كل هذا العبء من ورم في جسده، يسبب له ضغوطاً نفسية مهلكة.

لكنه وسط كل هذا، وخلال عمله في أحد الفنادق، يلتقي بفتاة جميلة غامضة، ويتعلق بها، ويحاول جاهداً إقناعها به، لكنه خلال حديثه مع صديقه، يقنعه بكتابة الشعر لها، ليعبر لها عن مشاعره، ويفوز بقلبها، وهو ما ينقل شخصية البطل إلى مرحلة جديدة، حيث يبدأ الاحتكاك بعالم وشخصيات الكتابة والمثقفين، وينكشف على صراعات لم يكن يعيها، حيث تتضح تناقضات صارخة في المجتمع السعودي عام 2002، وصراعات حول مسميات الشعر، وجدليات تخص القصيدة الحداثية والنمط التقليدي للشعر، كما يتوه البطل وسط زحام الأيديولوجيات الثقافية المتعددة وقتها.

 ويمكن تقطيع مشاهد الفيلم السعودي إلى كوادر تحمل الرموز، لفهم التأويلات التي يريدها المخرج، فيبتعد المخرج عن الوضوح الكامل في العرض، ويعتمد إخفاء بعض المعاني، بيدٍ ذكية، لمحاكاة عقل الجمهور.

رسالة

في الرسالة التي يحملها البطل بقلق كبير، يمكن أن نجد الكيفية التي يمسك بها الفرد بالخطاب الاجتماعي والصوت المحمول من خلاله، الذي يراكم داخل الذات أسساً وقواعد تجعل من الشخصية متخبطة قلقة، وهو ما حدث مع شخصية ناصر، الذي تاه بين الرسائل الاجتماعية المختلفة والتيارات الفكرية المتنوعة والقطبية في تلك الفترة.

 غراب نسي مشيته

نجد على الملصق الدعائي للفيلم، البطل يحمل فوق رأسه حمامة بيضاء، وهي ترمز للسلام الداخلي الذي يكنه ناصر للمجتمع، والسؤال هنا، لماذا لم يكن الغراب هو المحمول على رأسه؟ حيث أراد المخرج أن يصنع المفارقة بين الحمامة والغراب، فالغراب في القصة الشعبية الشهيرة ينسى مشيته بعدما قلد الحمامة في حركاتها، وعندما مل من التقليد وحاول الرجوع لطبيعته، نسي كيف كان يمشي في الأصل، فتاهت هويته وفقد قدرته على المضي في طريق صحيح، وسقط في تخبطه، وهذا التجسيد الرمزي أراد المخرج إسقاطه على كوادر الفيلم المختلفة.

 أفكار

الحمام الكثير الذي يعمد المخرج لإغراق المشهد من خلاله، ويتوسطه البطل، لربما يلمح السلمان من خلاله إلى القناعات التي تتطاير من حول أي شخصية في مجتمع ما، وأن أول التيه يكمن في بدء التقليد. ويريد السلمان من هذا أن يعزز التمسك بالهوية الخاصة، التي تكون خلال طريق الإنسان هي السند له من التشتت والتشظي.

وفي مشهد آخر، يظهر البطل محاطاً بدخان ينفثه ليعبر عن كم الصراع والغضب الذي يراوده، وكذلك يعبر عن العشوائية التي يتطاير من خلالها الدخان، والأفكار التي تتصارع داخل الذات وتتسبب له بجدل حول هويته الاجتماعية من جانب، والذاتية من جانب آخر.

 عقل على الرمل

يظهر في أحد المشاهد داخل أحلام ناصر، بُعد فانتازي، إذ يصور المخرج عقلاً مرمياً على الرمل خارج الجسد، ويقوم البطل بركله بقدمه، وهو تجسيد لحاله الجنون التي يمكن للمرء أن يعيشها في حال التفت لسلوكيات وقناعات الآخرين، دون أن يلتفت لهويته وتكوينه الشخصي.

كما أن تلطخ قدمه بالدم بعد الركلة، لربما يشير إلى ذلك التلوث الذي يطال المرء في مرحلة من عمره بأيدلوجيا فكرية ما، وإقران هذا الدم بالقدم يعبر عن عرقلة الخطى، أو حتى ابتلاع الرمال المتحركة للجسد بأكمله وهلاكه الأخير.

 رقابة

في مشهد تصويري، تلتقط الكاميرا جسد البطل وملامحه من الأعلى، وهو ما يلمح للمراقبة الاجتماعية للأفراد، وخضوع الشخصية لضغط اجتماعي يزيد من حدة القلق والاهتزاز.

ويُظهر هذا المشهد خطورة الجسد الاجتماعي ككل، على الجسد الذاتي، حيث يضطر المرء لفقدان تمثيل ذاته ويمثل الكل الاجتماعي في سلوكه وطريقة تفكيره، وهو ما جعل المنطقة العربية بأسرها تعيش نمطية متشابهة وموحدة خلال عقود طويلة، لعلها بدأت في التفكك بعدما تأثرت المعتقدات العربية بالعولمة وأدواتها، وهو ما يتضح في السعودية حديثاً، حيث تغيرت القوانين الخاصة بالفنون والفكر وكذلك المرأة، وصارت أكثر  احتواءً للمجموع.

 توثيق

يمكن ملاحظة مشهد نشر اسم ناصر في الجريدة الورقية، كلحظة توثيقية تعبر عن البعد الزمني، حيث كانت الطباعة الورقية في تلك الحقبة مسيطرة على العالم العربي، وكانت إحدى أهم وسائل المطالعة للأخبار والمقالات الفكرية الناقدة، عكس ما يحدث اليوم من تهميش لها، وسط هيمنة من أدوات التكنولوجيا والمواقع الإلكترونية.

 ويغوص الفيلم في موضوعات عديدة ذات تأثيرات مختلفة، ولكن يمكن إجمال فكرته الأهم، وهي صراع تقبل اختلاف الثقافات والتعددية في المجتمع، والبحث عن الهوية الذاتية في حقبة بداية الألفية الثالثة، حيث جسدت مرحلة فكرة مختلفة في المملكة العربية السعودية، عبر التيارات الفكرية والسياسية المختلفة، وحتى في الصراع بين الشعر التقليدي والشعر الحداثي، ففي بحر عاصف تتماوج فيه التيارات المختلفة كاشفة عن الفجوات العميقة بين أنسجة المجتمع، يسقط ناصر في فخ التجاذب ما بين الأفكار، وهو ما ينطبق على كل شخص يحاول الاندماج بالمجتمع عبر التقليد.

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة © 2025 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC